لا تفارقني صور حرب تموز. تعتمل في رأسي أصوات القذائف التي هطلت وقتذاك. في اليومين الأوّلين قضينا ليلنا في المرأب، في طبقةٍ سفليّة تكوّمنا كجثثٍ مؤجّلة. أحفظ رطوبة المكان عن ظهر قلب، وأذكر كيف ترقرق الخوف في عيون المرأة التي تمسّد شعر ابنتها برفق، تحنو عليها كمن اكتشفت أمومتها للتوّ. خوفٌ حاسم في العيون. هواءٌ يدخل ويخرج بمشقّةٍ في الرئتين، كأنّهم حشروا الشيّاح في ذلك المكان. «الراديو»، رديف الحرب في الذاكرة الجماعية، ينثر الكآبة في الآذان، يأتي مختلطاً بدعاء العجائز. الأخبار الجيّدة لا تأتي في الطوابق السفليّة. لا تأتي في الأقبية الرطبة.
اشتدّ صوت القذائف، بكى الجميع، بكت «فرح»، جارتنا الجميلة. تغضّنت ملامحها، وزادها الخوف سحراً. كان وجهها كخدرٍ خفيف في الوجنتين. كزجاجة البيرة الأولى أمام بحر بيروت. في طفرة البكاء، تذكّرت ابتسامتها. لم يبتسم أحدٌ في تلك الليلة. مجرّد وجوهٍ فكّكها الخوف، فبدت شفّافةً، أكثر ممّا يجب، في خوفها. ذلك الشعور الذي لا يُخبّأ ولا يُصطنع. نستعير ابتسامةً رفيعةً لإمرار الوقت، أحياناً. نقطّب الجبين بلا سببٍ أحياناً أخرى. لكنّ الخوف يطفو من تلقائه إلى السطح، كالغريق الذي لا يُدفن في الماء. في تموز نسيت عينيّ «فرح» الخضراوين، ووجهها الدافئ الذي يضيء بابتسامة طفيفة. نسيت كل شيء، وأنصتُّ صاغراً إلى صوت الطائرات، تقصف مخيّلتي بوجوهٍ أعرفها جيّدًا، التقيتها منذ ساعاتٍ في المرأب.
في تلك الحرب، شغلتني مخيّلتي بصوَر الأشلاء، وعدسات المصوّرين المسددّة نحو وجهي حين يكسوه الدم والغبار. صورٌ لا أحبّ رؤيتها كانت تطاردني: خطّ الدم الرفيع يفلق الرأس، الجفون المسدلة، والأرواح الهاربة نحو السماء. موت كمنجل، في يدٍ لا تكلّ ولا تتراجع. في الليلة الأولى، سقطتُ من قلبي. لم أفكّر بـ«فرح»، وفي دفترها الصغير، ودروسها التي تكتبها بيدٍ رشيقة. كنّا قد أنجزنا بعض الواجبات قبل يومين، وضربنا موعدًا آخر كانت الحرب أسرع منه. موتٌ تسرّب من الشاشة إلى الغرفة، أدخلني في بكاءٍ طويل، أطفالٌ وقد اعتلاهم الركام. كان باستطاعتي أن أميّز لون ثيابهم رغم الغبار الذي يلفّ المكان. قذيفة واحدة لا أكثر، كانت كافيةً ليتحوّل سطح المنزل إلى عدوِّ في اللحظة التي تقرّر فيها يد الموت أن تدوس على زرٍّ ما، لتنتهي حيواتٌ بأسرها تحت تلّة صغيرة. كانوا تمامًا عند تقاطع الخطّين، في وسط دائرةٍ تراقبهم من علوٍّ شاهق. ماتوا جميعًا، على مرأى من عدسات الكاميرا التي نثرت دماءهم في وجوهنا المختبئة خلف الشاشة. المتسلّحة بأملٍ هشّ. أملنا نحن، الّذين نعتقد أنّ الموت لا يصيبنا، وأنّ القذيفة لا تنفض أجسادنا في الهواء. نتسلّح بالشفقة على من قضوا، هكذا نطرد الخطر عن أرواحنا. بالتقاط أنفاسنا للتأكّد من أنّ الصور التي تبثّها الشاشات ليست لوجوهنا، بل لأناسٍ آخرين لا نعرفهم. ولا نعرف عن حياتهم سوى تلك اللحظة الأخيرة. تلك اللحظة التي لم ينتظروها أبدًا.
على الجهة الثانية من الهاتف، يقف أبي. يأتي صوته متكسّرًا في تلك الليلة. أسمع منه كلماتٍ مطمئنة. «لا نزال بخير»، يكرّر جملته الأخيرة مراراً، وأعرف أنّه يودّ أن يتأكّد منها جيّدًا. يريد أن يسمعها أكثر من مرّة. كان لا يزال محاصرًا، مع بقية العائلة، في القرية. في طريقه إلينا، ستتعطّل السيّارة التي تقلّهم. وستدمع عينا أبي، بعد سماع شقيقتي الصغرى تطلب منه بإلحاحٍ، العودة إلى منزلنا في القرية مشيًا على الأقدام. وستبقى جملتها تلك، تدوّي في خاطره إلى اليوم. هذا ما حمله من الحروب بأسرها: «بنرجع للبيت مشي يا بابا».
في حرب تمّوز مات قلبي، وثُقبت ذاكرتي بمجازر جديدة. أسمع الدويّ ذاته، بلا خوفٍ هذه المرّة. لقد فقدنا خوفنا. ولم نفقد شيئًا من ألبوم الدم في رؤوسنا. أذكر الصوَر تماماً، قبل ثمانية أعوام، كأنها حدثت أمامي ولم تتسرب إلى ذاكرتي من تلك الشاشة الباهتة، رأيتهم أولئك الأطفال ممددين أمام عدسات المصوّرين. الطفلة الجميلة بينهم، كانت نائمة. كان موتاً بلا دمٍ على الوجنتين، وبلا أوصالٍ مقطعة. موتاً هادئاً كمنامها. خلت الطفلة ستستيقظ بين اللحظة والأخرى، لتضحك في وجه ذاك الرجل قبل أن يرمي عليها الغطاء الأبيض. لا بد ستستيقظ. ستفتح عيناً وتبقي الثانية مقفلةً على حالها، ثم يطفح خجلٌ طفيفٌ على وجهها قبل أن تبتسم للعدسات من حولها. ستنفض عنها الأسمنت والتراب، وتكمل اللعب، في قانا هناك، ستكمل لعب النهار قبل أن تغفو للمرة الأخيرة.