بينما نسعى للتكدّس أكثر فوق بعضنا البعض، يخبرنا أحد الأقرباء أن ما ينزل من قذائف هذه الليلة مصدره بوارج حربية لا طائرات. ما يعني ضرورة الاستعداد لليلة باحتمالات موت أعلى، وهذا ما فعلناه. حفّزت الرواية خيالنا فغفونا أسرع. استيقظنا لنجد نصف قدم امرأة، من قرية مجاورة، مرفوعة على الشاشة فوق الركام مع طلاء زهريّ خفيف. بكينا قليلاً وعدنا للاهتمام بالسواد، نتاج قصف محطات الوقود، الذي غطّانا من الليلة الماضية.
دائرة الرعب التي كانت تتوسّع يومياً في رؤوسنا، أحكمها خالي ظهر ذاك اليوم ذاته. وصل إلى البيت، بعد جولة طويلة، ليحدّثنا بأن إسرائيل في حربها هذه المرة، تستخدم أسلحة جديدة متطورة جداً.
حسناً. أكملنا شربنا الشاي عادياً، ليُكمل هو سرديّته بعادية مطلقة وباستهزاء من قريب كسر رجله قبل الحرب بأيّام. أكمل الرجل بأن الصواريخ التي تنزل علينا تحفر عميقاً مكان سقوطها. وإذا نجونا بأجسادنا من تحت الردم، فستتكفّل هي أيضاً من جديد، بسحب الأوكسيجين من الجوّ، وهكذا نموت اختناقاً.
كان الرجل يبشّرنا، بابتسامة عريضة، بموتنا المحتّم الذي لا مهرب منه. أنهى كلامه، وضع كباية الشاي من يده واستودعنا لجولة جديدة. جماعياً، تمنينا عليه عدم العودة بأخبار مماثلة. فليتكتّم على ما يسمع، أو ألا يعود من أصله.
جارتنا لم تكترث طوال المدّة. انتهت من الشاي وذهبت إلى بيتها للبدء من جديد باعتنائها به وتنظيفه كما تفعل دائماً. كانت تردّد على الدوام أن الموت القادم سيكون روتينه أخفّ مع بيت نظيف ومرتّب، وهكذا ستُرفع جثّتها بجرأة أكبر على الشاشات. ولير حينها العالم جثثنا في بيوت نظيفة تُشبهنا. غرابة قد تشدّ تعاطفاً ومزيداً من التقارير الصحافية، وهكذا قد تتوقف جرّافة الموت عن لمّ أشلائنا، مُستفيدين من سطل مياه الجارة وممسحتها في مفارقة غريبة. ردّدت هذا أكثر من مرة.
شخصيّاً، كان يؤرقني ارتفاع احتمالات فقدان روحي. أن تُغلق صفحة حياتي وأنا أحدّق عاجزة والعالم يُحدّق هازّاً برأسه متأسفاً. الأمر ليس لطيفاً على الإطلاق أن تكون أنت وعائلتك ومنطقة كاملة تحت النار، مهددين بموت لا تريدونه، وبظلم ووحشيّة ورعب لا يتوقف. لا منطق كان يحكم الحدث، أنا وعالم بأكمله نتفرج عليّ وأنا أحدّق في موتي. بالنسبة لعمري، لم يكن هذا منطقيّاً ومفهوماً على الإطلاق. تجول الفكرة وتغيب لتعود وتجلس في مكانها: هناك أعلى بيتنا حيث تحوم الطائرة لتُفزعني.
أدهشتني قدرة أمي وخالتي على تتبّع تفاصيل الحرب، ليلاً، من شرفة بيتنا. تخرجان للنظر إلى ما يقع من قصف قريب ومحاولات إنزال وتمشيط، والكلام بصوت منخفض، والضحك والتحسّر على من يموت من شبابنا. كانتا تعيدان بحرفيّة تامة، ما تفعلانه في أيّامهما العادية. ونحن، المكدّسين على بعضنا البعض في البيت السفليّ، ننتظرهما بحتميّة أنهما عائدتان لتسردا وتطمئنا أن لا شيء قريبا من البيت، وأنه علينا النوم بانتظار يوم غد.
غزّة تحملنا اليوم، كما كل مرّة، إلى ذكريات حرب تموز 2006. لا أشعر بفاصل بينهما، وأخال أن شابة تعبر الآن في كل ما سبق وترتجف خوفاً. عندما كان القصف شغّالاً فوق جثثنا في تموز، كنت أنظر من حولي وأجزم أن لا حياة من حولنا. كان حتميّا لي أنه أمام هول ما أرى لن ينشغل الناس عنّا، خاصّة العاجزين منهم، لأنهم سيقضون وقتهم متحسّرين على عجزهم وموتنا.
مضى وقت طويل لأعرف أنه خلال الحرب تستمرّ الأشياء على حالها. لا يتوقّف العالم عن سيره ولا تبكي الناس وهي تمشي في الطرق حزناً علينا، وأن التسمّر أمام التلفزيونات لعدّ الشهداء والتحديق بأطرافهم ليس ضرورة، وكذلك تعليق السهر والحفلات لا يحصل بل تبقى الأشياء على حالها.. ضحكت طويلاً أثناء سرد صديقتي لتفاصيل أيّامها خلال حرب تموز. وهي تحكي علقت ذاكرتي في ركن واحد من رأسي، في ألوان وجوهنا وهم ينقلون لنا خبراً عن احتمالات قصف بيتنا لسبب غير واضح.
أكتب الآن ووردة تغني وأنا أعيد معها على صوت عال غير مكترثة بمن حولي. لا أدير التلفاز إلا لمتابعة حدث استثنائي، أذهب إلى "فايسبوك" مُقلّبةً الصور الآتية من غزة. تستوقفني قليلاً صورة الرجل الراكض فاتحاً يديه ليلحق بعائلته قبل قصف بيته، ولا ينجح في النهاية. أحاول تخمين يوميات حرب تموز لو كان لديّ حساب على "فايسبوك"، لأنتبه أننا كنّا من دون كهرباء من أصله.
أرسل رسالة لصديق مصوّر من غزة، وأختمها تلقائياً بـ"ديروا بالكن".
أنهي على عجل لتأكيد حجزي لحفل موسيقي في أول الشهر القادم، وأحاول فهم المعادلة.