ترخي حجابها وترجعه قليلاً، من دون أن تخلعه تماماً. تعرف جيّداً أنّ تحرير شعرها المتلبّد تحت الـ«قمطة»، سيحوّل باتجاهها عيون المنتظرات في صالون الحلاقة. لا تبدو في مزاج جيّد للتملّق، أو للتعقيب على عملية رصدها، بتوزيع ابتسامات فارغة.
شعرة، شعرتان، ثلاث شعرات.. عملية تنظيف الحاجبين مستمرّة. أثناء تمدّدها على كرسيّ أبيض طويل، يمكنها أن ترى انعكاس جسمها الممتلئ في المرآة المعلّقة فوقها. هدير المروحة في أذنيها، وأصوات أخرى. في هذه الحالة، ليس صعباً التنبّؤ بما يدور من همسات. ثوانٍ قليلة، وتنطلق السيدة الخمسينية: «الصبية من الضيعة؟ يمكن ما بتضهري كتير.. بنت مين إنت؟». لا يمكن الهروب من أسئلة يحرّكها الفضول. شهقة وعيون متسعة، فالفتاة العشرينية ليست متزوجة بعد، ولا حتى مخطوبة. يستدعي إعلان كهذا فتح نقاش بين النساء المنتظرات، حول ما يطلقن عليه صفة «العنوسة». ردّة فعلٍ تقليدية، ستنتهي بأن تتكدس في رأس الفتاة جميع الأسباب الموجبة للارتباط بسرعة، لأنّ «وضعها أصبح حرجاً».
***
في منزل ما، بعيداً عن صالون الحلاقة حكاية لفتاة أخرى.
هي الابنة البكر لسائق أجرة، عمرها 22 سنة تقريباً. تحمل شهادةً جامعية، وليست مرتبطةً حتى الآن. القليل المتوفّر عنها، كافٍ ليصنّفها كعروس محتملة.
ترتفع أصواتهما، وتبدأ الأم بتحريك يديها بانفعال. اعتاد المطبخ التوتّرات المرافقة لأحاديث الأم وابنتها مؤخّراً. الطلب نفسه، وردّة الفعل نفسها: العريس الذي طلب من وليّ الأمر التّعرّف الى الصبية العشرينية، «يستأهل أن تعطيه عشر دقائق من وقتك. ليس مطلوباً منك أن تفعلي شيئاً، اجلسي فقط». رشفة من فنجان الشاي بين يديها، وادّعاء الحاجة إلى السعال للخروج من المطبخ، يعطيانها القليل من الوقت، كي تتفادى الردّ المباشر. مرّة جديدة، تكرّر عدم جدوى أسلوب «الأمر الواقع»، المصاحب دوماً لعبارة «الشاب جايي الليلة، ما تجرصينا».
تحول زغردة عصفور عالية، دون احتدام الموقف أكثر. إنّه جرس المنزل. تسرع العشرينية لفتح الباب. لا تعرف من هو الشاب الواقف أمامها، لكنها عرفت تماماً ما الذي يحمله في يده اليسرى: دعوة لحضور زفاف. «عظيم، هذا ما ينقصني الآن»، ابتسامة صفراء وتهنئة فارغة من معانيها. أغلقت الباب، وعادت إلى المطبخ بخطى متثاقلة. «هذا لكما أنتِ وأبي، بدأ الموسم مبكراً هذه السنة».
***
أكثر ما يقلق جدّها فكرة التحول إلى مرطبان مخلل، بعد أن صارت في الـ27. أن تحمل شهادة ماجستير في علوم اللغة والتواصل، لا يهمّ. أن تتبوأ مركزاً مهماً في إحدى جمعيات المجتمع المدني، لا يهمّ. أن تكون مستقلة مادياً وسعيدة بحياتها الاجتماعية، لا يهمّ. كلّ شيء ليس بشيء من دون الزواج، الأمر محسوم في نظر الجدّ.
تشعل سيجارة ثانية، وتضحك. تشير إلى حركة الناس في شارع الحمراء، وتحكي عن حبّها له. «أشعر هنا أنّني فتاةٌ صغيرة، كأن المستقبل بين يديّ. أحببت دوما اختيار مهنة تشعرني بأنّني في فيلم هوليوديّ، عن امرأة في عجلة دائمة من أمرها، تركض بين عملها وأصدقائها وحبيبها الذي تلتقيه في إحدى الحانات. أشعر بألم في رأسي من كثرة الضغط، أحياناً، لكنّ ذلك لا يزعجني. أنا سعيدة في حياتي».
ترتشف القليل من القهوة، قبل أن تقول انها تحب تكوين عائلة، لكنها تنتظر الشخص المناسب. لن تسكن مع شخص لأربعين سنة قادمة، دون أن تكون متأكدة من أنّ هذا ما تريده فعلاً.
تبدو الزيارات العائلية في نهاية الأسبوع متشابهة بالنسبة لها، القليل من الكلام عن حياتها المهنية، والكثير من عبارة «متل ما الله يريد». استدعاء الله في هذه المواقف ينقذها من تبرير، غير مقنعٍ، لنمط حياتها البعيد عن فكرة الزواج.
تطفئ سيجارتها، معلنةً الوصول إلى المشهد الأخير في الفيلم الذي تخرجه: «عانس»، تفتّش عن طريقها الخاص، وسط الانتظار والتوقعات من حولها.