حين كانوا صغاراً، شاهد الأولاد في المدرسة، على شاشة التلفزيون الصغيرة الموصولة بآلة الفيديو، فيلماً إيرانياً جميلاً يمشي فيه الشهداء، مع بعضهم، على الـ"موتوسيكلات". يخرجون كل ليلة، ببدلاتهم الترابية وشالاتهم، ينظرون إلى الناس ويتكلّمون معهم.
لا أذكر الآن، وأنا أمشي في الشارع مراقباً الـ"موتوسيكلات" الكثيرة التي تمرّ أمامي، إن كان الشهداء الذين رأيتهم في الفيلم الذي شاهدناه في المدرسة، يتكلّمون بلكنة جنوبية أم لا، كما لا أذكر أسماءهم. أذكر فقط أنهم كانوا يشبهون آل أبو زيد جيراننا في عربصاليم، بوجوههم الممتلئة، وذقونهم الشقراء. أعرف أن هؤلاء الذين أراهم الآن، على الـ"موتوسيكلات"، ليسوا من آل أبو زيد، لأنهم ليسو شقراً، ولكن من الممكن أن يكونوا من الجنوب. أحاول حين أكلّم واحداً منهم، أن أركّز في كلامه الذي لا أفهمه، لأتبيّن إن كان يتكلّم كأهل الجنوب عندنا.
هكذا يتجوّل الشهداء في الشوارع هنا، على "موتوسيكلاتهم" التي يزيّنونها بالملصقات والصور والـ"شراشيب". يضعون على المرآة أو على المقود، صورة لهم يوم كانوا صغارا، أو صورا لهم، مع إخوتهم وهم يلعبون في الحقل أو في الحديقة. صرت يوم وصولي إلى طهران، أراقب أنواع الـ"موتوسيكلات" التي يقودها الناس. أطلّ برأسي من شبّاك السيارة، مركّزاً نظري على الشارع. هذا ليس له ذقن، وهذا يتكلّم كأهل حومين، هذا "موتوسيكله" خربان، أقول بصوت عالٍ كلّما مر بجانب السيارة "موتوسيكل" ملوّن. "أنظر، هذا برج ميلاد، وهذا شارع وليعصر. أنظر إلى الأشجار والحدائق"، يقول لي الذين معي في السيّارة، وأنا لا أزيح نظري عن الطريق. أقول لهم إنّني رأيت صوراً كثيرة للبرج والشارع، لكن الشهداء الذين يمرّون قربي على الـ"موتوسيكلات" لا يتصوّرون، ولا يضعون صورهم على بطاقات المعايدة، وفي محال بيع التذكارات.
صرت، بعد يومين أو ثلاثة من وصولي، أعرف أنواع الـ"موتوسيكلات" التي يقودها الشهداء وأشكالها، وصرت أميّز بين العابرين. للشهداء نوع محدد يركبونه، ويزيّنونه بزينتهم، لكي يتعرّف عليهم الناس، حين لا يكونون مرتدين بدلاتهم الترابية وشالاتهم. أغلب الناس تعرفهم، من الصور التي يضعونها، لأنهم دائما ما يُسألون إن كان الولد الصغير في الصورة يمت لهم بقرابة، أو إن كان البيت القديم بيته. حتّى أنا، في كل مرّة أصعد معهم، أسألهم عن أسماء الأولاد في الصور واحداً واحداً، ذلك لكي أعرف إن كانوا قد تصوّروا هذه الصورة في الجنوب أم لا، أو لأعرف إن كان أحد الأولاد صبياً أعرفه من القرية عندنا.
أنظر إليهم في ساعات العصر المتأخّرة، حين يخفّ الحرّ قليلا، ويخرجون إلى الشارع. أسأل أحدهم إن كان يستطيع إيصالي إلى بيتي. ينظرون إلى بعضهم البعض، ويقولون لي: "بيتك بعيد، والموتوسيكلات التي معنا صارت قديمة، لم تعد مثلما رأيتها في الفيلم"، قبل أن يقولوا للصغير فيهم أن يوصلني. يفسح لي المجال، وهو يبتسم، لكي أصعد خلفه. أصير أسأله على الطريق إن كان يعرف آل أبو زيد. أقول له: "أنا أتكلّم بالجنوبي مثلكم أيضاً، هل تفهم علي؟"، وأسحب من جيبي صورة لأخي يقف فيها، حين كان صغيراً، أمام البيت في عربصاليم، ويظهر فيها ابن أبو زيد، الذي استشهد بعدها بسنتين، ينظر إلى أخي من على الشرفة. أقول للشهيد الذي أتشبّث به جيّدا، إنّه يشبهه: "أنظر إليه، واقفاً على الشرفة، ذقنه وحواجبه مثل ذقنك وحواجبك، هو استشهد أيضاً، ابحث لي عنه، أظنّ أنّني رأيته مرّة هنا، أريد أن يوصلني هو إلى بيتي غداً". لا يفهم عليّ، حتى حين أحاول جعل لكنتي الجنوبية أثقل، يضحك منّي، ويعيد إليّ الصورة، ويقول لي إننا وصلنا إلى الشارع الذي يقع بيتي فيه.
أتمنى أحياناً، لو كنت أشقر اللون بذقن كاملة كآل أبو زيد. كانوا عندها سيفهمون عليّ بشكلٍ أفضل. ربما تعلمت حينها قيادة الـ"موتوسيكل" مثلهم أيضاً، وزينته بـ"شراشيب" وصور مثلما يفعلون. كنت سألصق الصورة التي معي على المرآة، وأقول للناس، الذين يسألونني، إن الصبي الذي في الصورة هو ابن جيراننا، وإن الرجل الأشقر الواقف على الشرفة ينظر إليه، هو أخي، وإنه شهيد أيضاً. أعود عند العصر لكي ألحق بالشهداء قبل ذهابهم. نمشي على الـ"موتوسيكلات" القديمة، منتظرين أن يطلب أحد المارة منّا أن نوصله إلى بيته.
(طهران)