فوق الجسر
"ربما لن ينتهي أبداً"، هذا ما سيخطر في بال العابر فوق جسر برج حمّود لأوّل مرّة. إذ يمتد الجسر على مسافة طويلة، تفوق الكيلومتر، رابطاً الأشرفية بالدكوانة، قاطعاً منطقة برج حمّود إلى قسمين. تظهر للجسر تفرّعات عن الجانبين، صعوداً ونزولاً، تذكّر بالسلالم المتفرّعة واللامتناهية، المؤدّية إلى غرفة الرسّام في رواية كافكا "المحاكمة". تمرّ الكتلة الباطونية المتمدّدة بمحاذاة بيوت وأبنية برج حمّود، متداخلةً معها حدّ التوحّد في بعض الأحيان، مما يتيح للراغبين بالتنفيس عن غضبهم أن "يدقّوا رؤوسهم بالجسر"، عوضاً عن "دقّها بالحائط".
يسمح الجسر أيضاً للعابرين فوقه، بالتفرج على البيوت الملاصقة له، إلى صالوناتها، وغرف نومها، حتى حمّامتها قد تصبح قابلةً للرؤية في بعض الأحيان. لذلك لجأ المعنيون إلى إضافة ألواح بلاستيكية حاجبةٍ للرؤية، قرب الشرفات والنوافذ المحاذية. رغم ذلك لم تمنع هذه الحواجز السكّان من أن يخلِقوا حكاياتٍ لهم مع الجسر، كما لم تمنع أيضاً أن تُفرض عليهم حكايات معه.
الحكايات
لم نكن نسمع غير ضجّة البشر. فجأةً غطّت أصوات ورشة بناءٍ على ضجّة البشر، قبل أن تختفي ويغطّي صوت السيارات على كلّ شيء. كنّا صغاراً، وصار الجسر عدوّنا الأوحد، إذ كانت السيّارات "في منزلنا طوال الوقت". لذا قرّرنا، أنا واخوتي، الانتقام. أحضرنا "بالونات" وأخفيناها جيّداً. انتظرنا خروج أمّي وأبي إلى العمل. عبّأت أختي الصغيرة الـ"بالونات" بالماء والصابون. تناولتها منها، وسلّمتها لأخي الكبير. وقفت لأرصد له السيّارات العابرة. رأيت واحدةً تسير ببطءٍ فوق الجسر. أشرت لأخي عليها. نظر إليها للحظة قبل أن يرمي "القذيفة"، والنتيجة إصابةٌ من المحاولةِ الأولى. انفجر الـ"بالون" على سطح السيارة، وانفلش الماء عليها. أسرع السائق لتشغيل المسّاحات، وهو يحاول أن يطلّ برأسه من النافذة.
تراجعنا فرحين، وبقينا على هذه الحالة شهرين. صارت المتعة خلالها ما يحرّكنا، لا الانتقام. إلى أن قرّرت أنا واختي، في يومٍ كان فيه أخي الأكبر مريضاً، القيام بشيءٍ جديد. أتينا بكيس نفايات، عبأناه بالماء والصابون، ثمّ رميناه. انفجر الكيس فوق زجاج سيارة مسرعة. اصطدمت بالحاجز الفاصل بين جهتيّ الطريق، ثم ارتطمت بسيارةٍ على الناحية الأخرى.
من حسن الحظ أن أحداً لم يُصب بجروح. بحثت الشرطة لبعض الوقت عن الفاعل، لكن من دون جدوى. أخبرنا أخي الكبير بما حصل، ولم نجرؤ على تكرار فعلتنا.
***
لم أحظ بنعمة البلاستيك العازل على شبّاك بيتي، في البداية. كانت غرفة الجلوس مكشوفةً للمارة. لم يزعجني ذلك كثيرا، إذ لم يكن الجسر مطلّا على غرفة النوم مثلاً.
في صيف العام 2005، أقيم كأس القارات. اضطررت، بحكم هوس شقيقي بكرة القدم، لمتابعة المباريات. سمعنا أثناء مشاهدتنا لأولى مباريات ألمانيا صوت صراخٍ آتٍ من الجسر. اقتربت من النافذة لأرى مراهقَيْن يجلسان قرب دراجةٍ نارية، ويتابعان المباراة على شاشتنا. لم نقل لهما شيئاً واكتفينا بمتابعة المباراة. ازداد عدد المتابعين من شبّاكنا في اليوم التالي. صاروا خمسة أولاد. لم نقل لهم شيئاً أيضاً. حاولت فقط إقناعهم بالرحيل بعد أن كادت تصدمهم إحدى السيارات، لكنهم بقوا جالسين ولم يردّوا عليّ. مع تقدّم البطولة، ازداد عدد الآتين من تحت الجسر على درّاجاتهم النارية، حاملين أعلام منتخباتهم وأبواقاً للاحتفال مع كل هدف، غير آبهين بالسيّارات التي قد تصدمهم.
فرحت يوم قرّر أخي مشاهدة المباراة النهائية، خارج المنزل. كنت مستغرقاً بمتابعة فيلمٍ لأحمد زكي، حين سمعت صوتاً آتياً من الخارج: "حط ع الماااتش". لكنّني تجاهلته. "حط على الماتش يا طبل"، زعق أحدهم. غضبت وطردتهم، لكنّهم تسمّروا في مكانهم. أغلقت الشبّاك وأسدلت الستار. ساد الصمت لبعض الوقت، قبل أن يتكسّر من حولي الزجاج. أصبت بالجنون، أطللت برأسي على الجسر، وهدّدتهم بأنّني سأتّصل بالشرطة إن لم يختفوا حالاً. "سد بوزك يا تخين، فالين"، قال لي أحدهم، ثم انصرفوا مطلقين العنان لهتافاتهم وأبواقهم.
***
لم يكن صخب السيّارات مشكلتي مع الجسر، بل الوسخ والغبار. إذ أنّ حبال الغسيل كانت موازيةً للجسر. لذلك كانت عمليّة غسل الثياب عبثيّةً تماماً: أغسل، أنشر، ثم ألمّ ثياباً متّسخة. جرّبت أن أضع الثياب على منشرٍ داخل المنزل، لكنها كانت تستغرق وقتاً طويلاً حتى تنشف، ولم يكن زوجي يملك المال الكافي لتثبيت حبال غسيل على شرفةٍ أخرى، مما اضطرّني في النهاية لإبقاء الثياب على حبال الجسر.
بقيت فترةً على هذه الحال، إلى أن بدأت بعض الثياب تختفي. ظننت بادئ الأمر أن ذلك سببه الهواء، أو السيارات العابرة. لكن بعد فترة بدأت ثيابي الداخلية بالاختفاء. خجلت من إخبار زوجي، لكن لاحقاً بدأت ثيابه الداخلية، هو أيضاً، بالاختفاء، فأخبرته. جنّ جنونه، واستدان المال من أحد أصدقائه، ليثبّت حبال غسيلٍ على شرفةٍ أخرى. علّق بعض الثياب المهترئة على الحبال القديمة، وجلس منتظراً. ظهر اللص عند منتصف الليل: "بي.أم." ثمانينيّة، نزل منها شاب يضع طاقيّة، اقترب من الشرفة ومدّ يده إلى الثياب الداخلية، سحب زوجي العصا الموضوعة إلى جانبه، وانهال عليه بالضرب. فرّ الشاب إلى السيارة، لكن زوجي عرف فيه وجه ابن جارنا. انتظر عودته إلى المنزل، لينهال عليه بالضرب على الدرج هذه المرة.
تحت الجسر
ظهرت قبل أكثر من عامٍ ونصف فجوات في الجسر، أتاحت للساكنين تحته رؤية السماء، في فرصةٍ نادرة الحدوث، إذ لا سماء تحت جسر برج حمّود.
هنا يتبادر إلى الذهن عنوان رواية ربيع جابر "بيريتوس: مدينة تحت الأرض". حياةٌ بكامل تفاصيلها، بشرفاتها المحجوب عنها ضوء الشمس والمطلّة على الشارع، محالّها، دكاكينها، ناسها وسيّاراتها. تتنزّه الفتيات في بعض المساحات أسفل الجسر، فيما يركض الأولاد خلف كرة قدم في بقعة أخرى. تتمدّد القهوة القريبة إلى رصيف الجسر، بينما تتلاقى العائلات على النرجيلة. رغم كل هذا الزحام، ورغم روائح البول في بعض الزوايا، فإنّ الجسر نظيف تماماً، فيما خلا أعقاب السجائر.
يهزّ الناس رؤوسهم بمللٍ عند سؤالهم عن حياتهم في ظلّ الجسر، متذكّرين بصعوبةٍ عدد السنين التي مضت على وجوده بينهم.