يهتف الفتى الممتلئ حماسة وسط الاعتصام. يلفّ ذراعه بشعار "الحزب الشيوعي" ويهتف بقوة كمن اعتاد المشاركة دائماً في مناسبات كهذه. والمناسبة الآن هي للتأكيد على الحقّ في حرية التعبير والتضامن مع صحافيين تعرّضوا للضرب بسبب تقرير تلفزيوني.
بعد قليل، سينتبه "الفتى الأحمر" إلى حديث جانبي بين مشاركين آخرين في الاعتصام نفسه، فيه آراء سياسية "حادّة" لا يتفق معها.
سينفعل الفتى، وسيبيح لنفسه الهجوم، وسط المعتصمين، على صاحب الرأي المخالف، لإسكاته بالضرب.
***
هذا شاب تقدمي بلا ريب. لن تجد، بالطبع، هذه الصفة في التعريف الخاص به على صفحته على "فايسبوك"، لكنك ستستنتجها من تعليقاته التي يقدّم بها نفسه. فالشاب المعنيّ بالشأن العام يخوض معارك يومية، فيها ما يدلّ على كثير من التحرر.
في تعليقاته هذه ستجد أيضاً استعارات كثيرة تمرّ كبديهيات لا تستوجب التدقيق في ما تعنيه. كأن يستنكر موقفاً ما فيرى فيه مثال "العاهرة" التي تحاضر بالعفّة.
في موقف شبيه، وبعد نقاش، تتراجع ناشطة مدنية عن استخدام هذا الوصف، وقد انتبهت إلى أن الموقف الذي أرادت إدانته أشدّ سوءا من "العهر"، وصاحبته أدنى مرتبة من "عاهرة".
***
تروي لنا الصبية في خطاب قدّمته على شكل مقالة نشرت في أحد المواقع الالكترونية، قصتها مع الحجاب. تكتب عن قيمة الحريّة التي حاربت لأجلها لسنوات، وعن الحقوق التي علينا أن نناضل لتحقيقها. وتستنتج في الخلاصة أن المرأة هي من تتحمل مسؤولية الواقع الذي نحياه! فهي التي تربّي الرجل على أنه الأقوى، وتربي الابن على أن له سلطة تعلو إرادة شقيقته، وتربي الابنة على أنها غير قادرة على العيش وحدها، والأهم: المرأة هي التي تصنع هذا المجتمع "المعاق".
ملاحظة شبيهة ستجدها في تعليق كتبته شابة أخرى، يوم أقرّ مجلس النواب قانوناً مشوّهاً لحماية النساء من العنف الأسري. تستنكر الشابة بشدّة، قيام نواب غير شرعيين ممدد لهم بشكل غير شرعي.. بتمرير قانون "معاق" يشبههم.
***
يتجّه شاب بسرعة إلى صندوق المحاسبة في أحد المراكز التجارية. أمامه، شابان تدلّ ملامحهما على أنهما عاملان فيليبينيان، ينتظران دورهما لدفع ما يتوجب عليهما. لا تزيد الأغراض التي يحملها كل واحد منهما عن الخمسة. لن يحتاجا إذاً إلى أكثر من دقيقتين لينجزا المهمة. لكن عاملة الصندوق لن ترضى بذلك. تأمرهما بتمرير دورهما إلى الشاب.
يستنكر الشاب بكثير من الحدة ما جرى، فتشرح له: يمكن لهما أن ينتظرا.
- لكنه دورهما.
- لا يهمّ. إنهما يعملان هنا، وللزبون الأولوية دائماً.
- لكنهما الآن زبونان، وهذا حقّهما!
- ولو، عيب. اتفضل استاذ.
لا يقتنع الشاب. يتابع التمتمة بعبارات الاعتراض، بينما يتفضّل لدفع حسابه.
إلى جانبه يقف العاملان بانتظار أن تسمح لهما عاملة الصندوق بالعودة.
***
تدلّ ملامحهما على أنهما عاملان فيليبينيان..
في الواقع، كانا شابين يبدو على ملامحهما التعب. يرتديان لباسين مختلفين، وإن كان لقميصيهما المتسخين اللون ذاته. هل يكفي ذلك ليستنتج المرء أنهما عاملان؟ ثم كيف تقول الملامح أنهما فيليبينيان؟
كان يمكن تفادي هذه الملاحظة لو جرى تحرير النص مرة أخرى. فتُحذف هذه العبارة ويستعاض عنها بما لا يحمل أحكاماً كهذه، كالاكتفاء بالقول مثلا أنهما شابان بدا عليهما التعب.
كان يمكن حذف هذه العبارة من النص، لو أنها لم تحضر في البال، كما وردت أعلاه، في اللحظة التي شاهدتُ فيها الشابين يبتعدان صاغرين عن صندوق المحاسبة، بينما كنت أتابع دفاعي عن حقهما، تماماً في الوقت الذي كنت أسدد فيه قيمة الفاتورة.