قالت خالتي إنها ترغب بأن يحافظ أولادها على نمط الحياة نفسها التي كانوا يعيشونها في بيروت، لذلك طلبت مني مرافقتهم إلى صور القريبة من ضيعتنا. لا أذكر اليوم ما الذي دفعهم وقتها للهرب من بيتهم في برج البراجنة، والقدوم إلى القرية. لا أذكر أيضًا إن كان ذلك قبل الاجتياح الإسرائيلي، أم بعده.
***
تتساقط حبّات المطر على طول الشارع، رغم عدم وجود غيوم فوق الطرق المحيطة به، لا في تلك القريبة من البحر، ولا في القريبة من الآثار. كأنّ الغيمة فصـّلت على مقاس هذا الشارع وحده. المطر الذي ينزل كالوحل، لا يترك أثراً على زفت الطريق، ولا على الرصيف المكسّر. حتى المارة القلائل في الشارع يعبرون تحته من دون أن ينتبهوا لتساقطه.
«عندما سمح لنا صاحب المكان باستخدام المبنى، من دون مقابل، ودخلنا إلى هنا، كانت النفايات تصل إلى السقف. احتجنا خمسة أيام من العمل، وأكثر من 20 نقلة في الشاحنة التي استأجرناها لإفراغه من القذارة المتراكمة. كانت تلك المرّة الأولى منذ أكثر من 25 عامًا التي يفتح بها باب المبنى الحديدي».
يتساقط مطر الوحل على جدران المبنى الحمراء، من دون أن ينجح في غسلها من الأوساخ العالقة عليها، أو في مسح طبقات الوسخ المتراكمة على زجاج الشبابيك العلوية. على الرصيف تحت سقف المبنى، الذي لا يوجد ما يدلّ على اسمه أو هويته، يقف عددٌ من الأشخاص منتظرين هطول مطرٍ حقيقي يغسل المكان من كلّ هذه القذارة.
«عمّر المبنى في الستينيات لمصلحة أربعة شركاء، قرّروا افتتاح سينما فيه، أطلقوا عليها اسم سينما الحمراء، التي ربما كانت السينما الوحيدة في صـور وقتها. عُرضت في سينما الحمراء أفلام كثيرة، من أفلام فيروز والرحابنة ودريد لحام وصولاً لأفلام الـ«كوي بوي» والـ«كونغ فو» والـ«بورن» في آخر أيامها. كما استضافت عدداً كبيراً من الفنانين والشعراء كدريد لحام، شوشو، مارسيل خليفة، محمود درويش، مظفّر النوّاب وكثر آخرين».
***
كنت قد حدّدت وجهتنا مسبقاً، حتّى قبل أن ننزل من سيارة جارنا أبو وجيه، المرسيدس، في منطقة البص: سينما الحمراء. كانت جدرانها الحمراء في محيط بلا ألوان تجذبني إليها كثيراً، لكن سمعتها السيئة كمرتعٍ للـ«زعران» جعلتني أتردد دائماً في دخـولها، إلى أن أتى هذا اليوم الذي رافقني فيه ابنا خالتي، صاحبا الأوزان الثقيلة.
***
الأرضية متعفّنة، الوسخ ملتصقٌ بالبلاط التصاقاً أزلياً. قرب المدخل شبّاك تذاكر أكله الصدأ. في الداخل صالة وحيدةٌ للعرض، عارية الجدران، باردة وفارغةٌ من كل شيء. على الدرج الدائري المؤدي إلى الطابق الثاني، تنتشر روائح المراحيض التي يختمر ما فيها منذ أكثر من 25 عامًا. في الطابق الثاني منصّةٌ مؤلفةٌ من مدرجٍ حجري بلا مقاعد، تنيره ثلاثة ثقوب في السقف، تضفي على المكان سحرًا غريبًا. على الحائط خلف المنصة بار خشبيٌ متهالك، بلا مشروباتٍ كحولية، ولا مقاعد جلدية مع طبقاتِ غبارٍ تتراكم بكثافةٍ منذ سنين طويلة. على الحيطان كتبت أشياءٌ كثيرة: فيروز، الجبهة الشعبية، فهد بلان، بنت الحارس.. أما غرفة العرض، فتحيط بآلاتها بقايا أشرطة أفلام وعلب حديدية كانت تُحفظ بها، إضافةً لمقصّات وجوارير لحماية الأفلام من التلف، صدأت مع مرور الزمن أيضاً.
«ما نرغب في فعله هو إعادة الحياة لسينما الحمراء، وتحويلها ملتقى لجميع أبناء صور على اختلاف انتماءاتهم. فهذه السينما بقيت لفترةٍ طويلة الواجهة الثقافية للمدينة، وشهدت على الزمن الجميل للسينما اللبنانية والعربية».
بعد شهرين، ستشكّل أحرف النيون المضاءة مجتمعةً كلمة سينما الحمراء. أسفل هذه الأحرف التي ما زالت لامعة، سيوضع لوح خشبي تعلق عليه ملصقات ملوّنة متنوّعة، تعلن عن النشاطات المختلفة للسينما: أسبوع أفلام إنغمار بيرغمان.. ندوة شعرية.. عرض راقص لفرقة مسرحية اسبانية.. دعوة للتسجيل والمشاركة في مهرجان أفلام صور الأول للأفلام القصيرة..
«نملك أحلاماً كبيرة وأفكاراً كثيرة للنهوض بسينما الحمراء، لكننا لم نحصل على دعمٍ من أيّ جهة في المدينة، ولو كان مجرّد دعم معنوي، لا من بلدية صور، ولا من غيرها. مما اضطرنا للحصول على قرض مصرفي لنتمكن من إعادة تأهيل السينما والمبنى الذي تقع فيه، وهو المشروع الذي سنستمر فيه، ونعمل على إنجازه مهما كانت الظروف».
***
اشترينا التذاكر وصعدنا إلى المنصّة. كان الفيلم المعروض لدريد لحّام، صح النوم ربّما. غصّت الصالة بالناس، الذين ملأوا فضاءها بدخان سجائرهم التي اختلطت رائحتها بروائح البيرة والعرق والبول. بعد دقائق قليلة على بدء الفيلم دخل غوّار إلى إحدى الدوائر الحكومية، يظهر خلف الموظف الجالس في مكتبه فيها صورة للرئيس السوري حافظ الأسد. أشعلت الصورة حفلةً من الشتائم وصافرات الاستهجان في الصالة، بحماسة دفعتني أنا وأولاد خالتي للمشاركة فيها، لكنها دفعت برجلٍ آخر إلى سحب مسدسه من جيبه، والبدء بإطلاق النار على الحائط الأبيض الذي يعرض عليه الفيلم محوّلاً حماسة الناس إلى رعبٍ دفع بالجميع، بمن فيهم أبناء خالتي، للركض هرباً من رصاصة طائشة.خرجنا إلى الشارع وواصلنا الركض، إذ كان الرجل، على ما يبدو، مصرّاً على إفراغ المشط كاملاً في رأس الرئيس. بقينا نركض ونركض حتى وصلنا إلى شاطئ البحر. لم أجرأ بعدها على العودة إلى هناك، لكنني ظللت لفترة طويلة أسمع رفاقي في القرية يتحدثون عن فجوةٍ تظهر في رؤوس الممثلين في كل الأفلام المعروضة في سينما الحمراء.
***
الكلام بين مزدوجين للمسرحي قاسم اسطنبولي صاحب مبادرة إعادة افتتاح سينما الحمراء في صور. ويحرص اسطنبولي على انجاز أعمال الترميم والتجهيز في الأسابيع المقبلة، قبل موعد الافتتاح الذي يتزامن مع «مهرجان صور المسرحي» الذي سيقام في الثالث والعشرين من شهر أيار المقبل.
لتقديم الدعم للمشروع يمكن التواصل مع قاسم اسطنبولي على الهاتف الخلوي: 70903846 أو عبر البريد الإلكتروني: [email protected]