بماذا تشتهر طرابلس؟ في صناعة الحلويات العربية، والصابون، وربّما المفروشات..
حسناً، هذا تعريف تقليدي. لكن في الوضع الراهن شاء أبناء المدينة أن يتوجهوا، ولا سيّما شبابها، إلى اختراع صناعة أخرى تميّز هذه المنطقة: «تطوّع لمحاربة الموت». فالتفجير المزدوج الذي استهدف مسجدي التقوى والسلام في طرابلس في 23 آب من العام الماضي صنع ما سمّي بـ«خلية الأزمة» لتحلّ مكان الأجهزة الرسمية في العديد من واجبات التعويض عن هذه الكارثة التي نتج عنها 50 شهيداً و500 جريح وخسائر مادية جسيمة. وثائقي «آب 23، طرابلس» صدر مؤخراً ليوثق أعمال هذا الفريق المتطوّع، وينقل صوراً وشهاداتٍ حيّة من موقعي التفجير.
الفيلم المكوّن من 23 دقيقة، في صيغته ومضمونه، قدم نموذجاً عن التطوّع. صنعه ثلّة من متطوّعين لأرشفة جهود متطوعين آخرين في «تجمّع الحملات المدنية ضد العنف في طرابلس» وسائر المتطوعين الذين تداعوا بعفوية مع مكانس ومعاول من بيوتهم ليساعدوا في إزالة الضرر من مكان الانفجارين. الفيلم الذي أخرجه وأنتجه الياس خلاط، عمد في الدقائق الأربع الأولى إلى إظهار صور مؤلمة من التفجيرين. وتخلّلته مقابلات مع شهود عيان وناجين أجرتها الزميلة مطيعة الحلاق.
تطوّع في التصوير فريق شبابي مكوّن من مدير «إيمبكت ميديا» رامي حنّوف، الذي صودف تواجده بالقرب من مسجد السلام لحظة الانفجار، وتمت الاستعانة بمشاهد حقيقية رصدتها كاميرته بأجزاء كثيرة من الفيلم، بالإضافة إلى طه عكّاري وهدى حجازي اللذين تطوّعا في السابق للمشاركة في إنتاج أفلام عن طرابلس. كان طه في السابق مساهماً في الفيلم الدعائي القصير «ما بدنا ياها تغلي من جديد» للتوعية حول خطر دنوّ حرب أهلية جديدة ضمن حملة «طرابلس مدينة خالية من السلاح»، وكانت هدى قد اشتركت في الإعداد لفيلم «قهوة المدينة» من إنتاج المركز الثقافي الفرنسي بالاشتراك مع «اكلا كونساي» منتج وثائقي «آب 23، طرابلس». وتعاون كلّ من عبد الله دقماق في إدارة الإنتاج، وماركو طورني للمونتاج، جيمس لي غراي وكيرودين في الموسيقى، وترجمته إلى الفرنسية والإنكليزية جيهان فيعاني.
في الحوادث الإرهابية الأخيرة، تخرق بعض وسائل الإعلام أخلاقيات الخبر فتنقل مشاهد لأشلاء وجثث مشوهة. هذا الوثائقي تجنّب الصور الدموية واهتمّ بحشد عناصر من الواقع تركزت في بدايات الفيلم. دخّان متصاعد، سيّارات محترقة صارت خردة، شظايا زجاج هنا وهناك، ومحلات تجارية تحولت إلى خرابات، جور عميقة، عرانيس ذرة متفحّمة، بندورة مهترئة، كعك متطاير على الأرض وعلب الجبنة الحمراء التي انصهر لونها بحمرة الدم، شرفات البيوت المدمّرة، وذلك فقط ما ظهر من دمار تلك المباني السكنية.
لكن الجزء الأكبر من الفيلم ركّز على مرحلة «ما بعد التفجير»، أي على الأعمال التطوعية التي شملت مسح الأضرار، وترميم 90 في المئة من أصل 153 محلا تجارياً متضرراً، بحسب إشارة أمين سر جمعية تجار طرابلس غسان حسامي. وجرت مساعدة الهيئة العليا للإغاثة والجيش اللبناني في ملء الاستمارات. ووظّف الأكبر سنّاً خبراتهم في الحرب السابقة، وكان يجري تقييم يومي لأعمال الترميم تلك، فيما عمل متخصصون في الأمراض النفسية على تكوين «خلية الدعم النفسي»، هدفها متابعة النتائج النفسية من خلال ندوات وخط ساخن سيطلق قريباً لمنح استشارات فردية للمتأذين نفسياً من التفجير الذي يعتبر الأكبر من بين التفجيرات الإرهابية في لبنان، حتى الآن.
طغت الطاقة الإيجابية على هذا الوثائقي الذي يتحدّث عن حادثة إنسانية مؤلمة. ممازجة صعبة. ملكة غريبة وجِدت لدى أبناء طرابلس، في تحويل الكارثة إلى مثال في الحلم والمحبة وسعة الإدراك والمسؤولية الوطنية. حتى شهادات الناجين من الانفجارين لم تكن غارقة في السوداوية. على العكس، يقول الشاب بلال حسين إنّ دمه الذي سال في مسجد السلام جعل بينه وبين هذا المكان صلة دمّ ووطّد علاقته بالمدينة. أمّا أحمد عبوس الذي فقد أحفاده الثلاثة في انفجار مسجد التقوى، فركّز كلامه على طرابلس التي ارتدت الحلّة الجديدة وبدأت تتعافى بفضل سواعد أبنائها.
الأب الروحي لهذا العمل، الياس خلاط، أكّد أن «الفيلم يشكل شهادة حية عن التلاحم والتكافل بين الطرابلسيين في أوقات مصيرية، وهو مهدى لهم تقديراً لوعيهم».
أمّا «أبطال» الفيلم فعادوا اليوم إلى ممارسة حياتهم الطبيعية. أبو عشير اشترى باصاً ليقلّ به تلامذة المدارس ويرى في كل طفل حفيداً له. هاشم ملك أعاد فتح صيدليته التي كانت قد احترقت بالكامل وتصدّعت أساساتها. أحمد الملّ الذي نجا من انفجار التقوى فتح قهوته من جديد. والحياة تكمل، والشارعان عادا أفضل من سابق عهديهما، لأنّ شباب هذه المدينة صمّموا على إعمار ما دُمّر، ويعملون الآن على تطبيب أوجاع المحزونين.
فيلم «آب 23، طرابلس» عيّنة عن حركة تطوّعية تشهدها طرابلس، تسترعي الوقوف عند مظاهرها وخلفياتها، ولعلّها تؤسّس لحالة جماعية تنتزع الحياة بإصرار من قلب الرّكام الأمني والانمائي الذي تعاني منه المدينة.