يوميات بيروتي
 
بالنــسبة لابن السبعــة عــشر عــاماً، لم يــكن عــدوان تمــوز أكــثر من مجــرد لمّ شمل عائلي سيئ التوقــيت. انقطــاع كهــرباء شبه دائمٍ وأصوات قذائــف ليلية تمرّ فــوق رأسه باتجاه الضاحية الجنوبية. جــلّ ما أردته حينها كان قليلاً من الإثارة يكـسر روتين العــطلة الصــيفية ويزيحني عن الكــنبة المواجهة للتلفاز، فشاءت الأقدار أن تندلع حرب تزيد من حرارة الصيف سخونةً وحرقةً.
أعترف اليوم، ولو بحرجٍ كبير، أنني لم أدرك تماماً خطورة ما كان يحدث، ربما لاعتقادي الراسخ، من دون مسوغ سوى كثرة الأفلام التي اقتت عليها خلال سنوات نشأتي، بأن الحق دائماً ما ينتصر على الباطل، وأن النهايات، كل النهايات، تنتهي بعودة الأبطال إلى منازلهم ظافرين.
أذكر جيداً أن القلق الذي لفّني مع بدء العمــليات العــسكرية على جـانبي الحدود اللبنانية - الإسرائيلية هجرني سريعاً. حل محله نوعٌ من اللامبالاة كرَّسَتْها تطمينات أمي المتكررة، نقلاً عن والدي، بأن بيروت «محيّدة» عن مناطق القصف لاعتبارات سياسية؛ وتأكيدها أن أقرباءنا لن يقيموا جميعهم عندنا. جزمها هذا سرعان ما نقضه توافد فلول الهاربين من وابل القنابل ومراوغي الموت على الطرق المكشوفة، من اوتوستراد الجنوب إلى جسر سينيق والأولي وأبو الأسود والدامور.. إلى دارنا. لم تزعجني فكرة عدم وجود مرقد عنزة في بيتنا، كما أوهمت نفسي في وقتٍ سابق، وعندما اتخذت قرار تمضية نهاري متنقلاً بين المدارس - الملاجئ لم يعد يعنيني عدد نزلائنا المستجدين، ولا مَن استحوذ على كنبتي. لا أعلم على وجه الدقة ما الذي دفعني لعبور عتبة المنزل نحو الفضاء الخارجي. أرجّح أن حاجتي لأن أكون مفيداً تقاطعت مع حاجة النازحين لمن يفيدهم في محنتهم، فنشأت كيمياء بيننا، ولعل الجغرافيا لعبت دورها، فتفاعلت جيناتي «الجنوبية» مع فظاعة الحدث وهبّت لنجدة «أهلها». وقد يكون التاريخ قد ظهّر على حين غرة مروءة العرب وشيمهم في إغاثة المحتاج ونجدة الملهوف، فاندفعت متطوّعاً لتوزيع الطعام والماء في الملاعب والصفوف.
شريط أحداث صيف 2006 أشبه بألبوم صور بهتت ألوانه وغطــاه الغـبار. تمر أمام ناظري مشاهد ضبابية عاينتها خلال ثلاثة وثلاثين يوماً عن معاناة الجـنوبيين مع التهجير القسري وألم التعايش في بيئة غريبةٍ كمتعثري الحظ. تغــمرني غشاشة تحول دون الولوج إلى تفاصيل حكايات انسلاخ عن تربةٍ رواها أهلها بعرق جبينهم وأحلامٍ لم يوضبوها في غمرة الصدمة، فتركت لمصيرها بين الدمار والخراب والأشلاء.
في استعادتي ليومياتي مع الحرب، تقع على مسامعي أسماء عدة: عبير صديقة الطفولة التي ساندتني في الترفيه عن الأطفال وتسكين مخاوفهم بـ«اللقّيطة» وقصص ما قبل النوم. ومريم قريبة عبير الزائرة من «ميشيغين» الأميركية التي بدورها واكبت خطتنا المرتجلة. وصديق مريم الذي لم أعد أذكر اسمه. وهناك أيضاً عماد، الشاب القادم من «ميس الجبل» الذي التقيته وعائلته المهجرة في مدرسة للراهبات في رأس بيروت، وقضيت معه معظم أيامي بين التظاهرات أمام مقر «الاسكوا» والسرايا الحكومية وشوارع الـ«داون تاون» التي لم يزرها قبل ذلك. أذكر جيداً كيف سدد شقيقه الصغير الكرة على وجهي بدل المرمى، والكدمة التي منيت بها للأيام التالية. كانت المرة الأولى (والأخيرة) التي أشارك فيها في مباراة «فوتبول». وأذكر زهراء ذات العامين، وشعرها الأشقر المنسدل على رداء نومها الزهري. حين رأيتها للمرة الأولى خلتها أجنبية.
بالسرعة التي بدأت فيها، انتهت الحرب، وعادت كنبتي إليّ بعدما عادت القرى إلى ناسها.
بعد قرابة ست سنواتٍ لم يبق في جعبتي سوى شظايا ذكريات عن أيامٍ وجدت فيها سعادة استثنائية برغم قباحتها، ودرسا قيّما في المشاركة ومد يد العون.. وحساب «فايسبوك» يصلني بأصدقاء الأزمة.