كأن الماضي لم يكن يوماً
 
عيون اللجنة الفاحصة شاخصة على شاشة تلفزيون ذات بوصات قليلة، من المفترض أنه أدى قسطه للعلا لكبر سنه، لكن أحداً ما ارتأى إبقاءه في الخدمة لسببٍ يشبه في عدم وضوحه، الصورة التي يبثها من بعيد. تعابير وجوههم لا تشي بشيءٍ على الإطلاق، غابت عنها ردود فعل الاستحسان أو الاستياء. بين الفينة والأخرى يرفّ لأحدهم جفنٌ أو يطقطق بقلمه، فأطمئن أن الجميع ما زال على قيد الحياة وأن لا آثار جانبية قاتلة لمشروع تخرجي.
تزدحم الأفكار داخل رأسي، ويزيده انقطاع الكهرباء المتقطع تشويشاً: لعل جمود أعضاء اللجنة هذا ناتجٌ عن رضا ضمني يفرجون عنه في المشهد الأخير، أو خيبة أملٍ تحاول شق طريقها عبثاً على جبينهم؛ والأسوأ... أن يكون انطفاء جهاز الـ«دي.في.دي» وإعادة تشغيله مراراً وتكراراً قد أصابهم بالملل فتصلبت عضلاتهم.
الرحلة المؤدية إلى غرفة المناقشة في الطابق الثاني من مبنى كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية لم تكن أبداً نزهةً سلسة. سبقت اللحظة صفر أسابيع طوال من الإعداد والتحضير والتخطيط، وساعات لا تحصى في أروقة أرشيف «السفير» للعودة بالزمن إلى عصره الذهبي في الستينيات والسبعينيات، يضاف إليها مقدار كبير من الصبر للتعامل مع ناكثي الوعود، والمتأخرين عن مواعيدهم وعلماء الانثروبولجيا، والكثير الكثير من «البوظة» لتبريد الأعصاب.
وإن كان «الحرث» في صفحات الجرائد القديمة أمراً يسيراً ومضجراً وباعثاً على النعاس نوعاً ما، فالتنقيب عن موادّ مصورة يبنى عليها الوثائقي كانت مهمةً مستحيلة لا سيما مع غياب الوسيط وواسطته إلى داخل غرف أرشيف بعض المحطات المتلفزة، الخاصة منها والرسمية. فجأةً ما عاد لبيروت ذاكرة بصرية، وماضيها لم يؤرخ قط. البعض استخف بفكرة معالجة انعكاس الثقافة في مقاهي شارع الحمراء ومقارنة (ومقارعة) «الهورس شو» مع «ستاربكس»، فأرجئ التعامل مع الطلب إلى أمدٍ غير محدد، بحجة كثرة الانشغال؛ وثمة من قرر العزوف عن المساعدة بعد أسبوعٍ ونيف من المماطلة متأسفاً ومعتذراً ومتحججاً بأمرِ من وزارة الإعلام نفسها يمنع الاطلاع على الأرشيف، ليتبين لاحقاً أنه يكيل بمكيالين؛ والقلة القليلة عزمت على مد يد العون فأخطأت الهدف ليبصر النور فيلمُ من تسع عشرة دقيقة يوثق مقاهي الحمراء الثقافية «أيام العز»... بإحدى وعشرين ثانية من مشاهد الفيديو!
بالعودة إلى الوراء يخيّل إلي اليوم، لو أنني تناولت معاناة الطالب مع مصادر معلوماته في مشروع التخرج لما عانيت الأمرين في الحصول على وثائق مرئية، ولاغرورقت عيون اللجنة بالدموع بدل تسمّرها بدهشة على صور أماتت الماضي بدل أن تحييه.
الجامعة اللبنانية - الفرع الأول