على بالي شوفِك
 
ثمة فصول في حياتنا تحدث كيفما شاء. هكذا بدون مبررات. ثم لماذا يفترض بكل حادث أن يكون وليد مقدمات أو أسباب توجب حصوله؟ فقد وقع صاحبنا في الحبّ بلا سبب مقنع! كلّ ما كان مقتنعاً به ذلك المساء أنه واقع في الحبّ لا محالة. "بلى، هذا هو الحبّ"، ظلّ يقول لنفسه.
لا أعرف كيف وصل إلى هذه الخلاصة، كما أني لا اعرف ما هو سرّ هذه الـ"بلى". لكن ما أدّعي معرفتي به، هو شعوره بخفة جسده تلك اللحظة، كأنه على أهبة التحليق. لا أكتمكم سراً أني اختبرت هذا الشعور من قبل. لقد تحسسّت لهنيهة نشوء جناحين أعلى كتفي. لكني لم أطر. لا أحسب على نفسي أني أضعت فرصتي في الطيران وقتها. فما كان مهماً بالنسبة إليّ هو النشوة المتولدة من الشعور بالقدرة على الطيران. لحظة لو سمحتم... ما الضير في إضاعتي فرصة الطيران؟ فهناك فرص كثيرة لم أحسن استغلالها حتى ذهبت أدراج الرياح، وأنتم مثلي أيضاً تضيعون الفرصة تلو الأخرى! تضربون كفاً بكف قائلين: "آآآخ.. لقد أضعناها".
- "آااخ. لو كنت أعرفك من زمان. لقد فوّت على نفسي الكثير. صمتك الساحر وابتسامتك الأخاذة هذه"، خاطبها في سرّه وهو جالس قبالتها.
كانت المرّة الأولى التي التقاها فيها. حضرت قبل موعدها بربع ساعة. لم يحبذ فكرة أن تكون هي بانتظاره. حتى انه تلفن ليقول لها "أنا في طريقي إلى المقهى، سأكون بانتظارك". أراد أن ينتظرها هو. أن يتأملها وهي تنزل السلالم على مهل كما كان يتخيلها، أميرة نبيلة ترفل بالأبيض.
أحبُّ الانتظار في الحبّ. أن انتظر الحبّ أو من أحبّ. ما أن تتناهى كلمة "الانتظار" إلى مسمعي حتى تراني استحضر قصيدة "انتظرها" لمحمود درويش. "انتظرها حتى يقول لكما الليل لم يبق غيركما في الوجود"، "وقدمّ لها الماء قبل النبيذ"، "وإن أقبلت قبل موعدها فانتظرها وإن أقبلت بعد موعدها فانتظرها". دعكم مني الآن. فقد كانت أميرته النبيلة تلبس الأبيض فعلاً كما تخيلها. ولم يكن مثلي في حاجة إلى قصيدة لدرويش كي يدرك عذوبة انتظار الأميرة. صحيح أنه تمنى لو تأخرت عن موعدها كي ينتظرها، لكنه لم يكن مضطراً إلى ذلك، فهو ينتظرها منذ ما قبل اللقاء بأسابيع.
- خطر على بالي أن أهاتفك أمس السبت لنشاهد معاً فيلم "هلأ لوين؟" في السينما، لكن خفت أن تكوني مرتبطة مع أحد بموعد أو مشغولة، وأنا بصراحة لا أريد أن أتسبب لكِ بإزعاج.
- يا ريتك دقيّت ما كان عندي شي، وأنت لا تزعجني! بعدين بدي شوف شو هوّي هالفيلم.
تعرّفا بعضهما إلى الآخر على موقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك". أووه كيف يتحوّل هذا الفضاء الواسع إلى مكان ضيق جداً! الأصدقاء كثيرون، أما من تهتم لأمرهم فقلائل. كان يدخل إلى حسابها كأنه يدخل بيتها. ها هي أمامه. صورها كثيرة. تعجبه صورها. لكن هناك أربع صور يعشقها. قام بحفظها على الحاسوب ولم يمّل بعد مشاهدتها كل صباح قائلاً "صباح الخير يا أميرتي النبيلة، أتمنى لك نهاراً سعيداً!".
اكتشفت صدفة أن حسابي على الـ"فايسبوك" بات مليئاً بالأموات. نعم بالأموات. RIP، خسرناك، Oh my god :S، لن ننساك، جملٌ ما زالت تطرق نافوخي! لا أجرؤ على حذف أيّ من هؤلاء رغم أن عدداً كبيراً منهم لا أعرفه، فهم، ولا ادري لماذا، من قاموا بإضافتي! أخاف لوم أرواحهم لي على حذفي إياهم من قائمة أصدقائي. بربكّم ما هذه الترهات؟ هل يعقل أن يكون واحدهم في عليائه وعينه على الفايسبوك مثلاً!
لم يحب قريته يوماً. صارحها بذلك يوم التقيا. لماذا؟ سألته. أهلها متكبرون، ما شهدته فيها لم أشهده حتى في المدينة. أجاب. ليس كل البشر متشابهين، هذه صورة خاطئة. ها أنا أمامك، هل تشعر باني متكبرة؟ سألته. لا. أومأ لها برأسه وهو يبتسم. صاحبنا هذا الذي وقع في الحبّ يكتب القصائد. لا اعتقد إن إطلاق صفة الشاعر عليه أمر محمود. فهو ليس بشاعر. لعله يكتب ما يشبه الشعر.
- ما نفع هذه الجريدة التي بين يديك؟ هل تعلم أني لا اعرف المطالعة بالعربية؟ حقاً لقد أمضيت مرحلة التعليم الابتدائي والتكميلي في مدرسة فرنسية ثم انتقلت إلى الجامعة الأميركية وهكذا...
- تعلمي اللغة العربية. فهي لغتك الأمّ. ستدركين حالما تتمكنين من فهمها أن فيها من الحنوّ ما هو عند الاّم. ثم ان حصل وكتبت فيك قصيدة فماذا ستفعلين؟
- ممم، لا اعرف... ستشرحها لي!
- ... سأشرحها لك!
لم تعلم أنه كتب فيها قصيدة فور عودته إلى البيت. أراد للقصيدة أن تكون هدية العيد، ولأنه لا يجيد الانجليزية خط رسالته بالعربية وطلب إلى صديقته أن تترجمها. بعث لها بالنص المترجم مرفقاً بالرابط الالكتروني للقصيدة على بريدها. مرّت أيام قبل أن تجيبه. كانت رسالتها مقتضبة. قرأها كأنه لم يقرأها. كأنها لم تجبه.
يعتقد واحدنا أحياناً انه في جوابه المختصر قد شفى غليل السائل. لكنه لا يدرك أن في إجابته المقتضبة هذه قد أثار أسئلة أبعد من السؤال المطروح.
- ها أنت "أونلاين" إذاً. لن أكلمك. فأنا قدمت أفضل ما عندي. فلتقدمي ما عندك! قال مبتسماً.
مضت الساعات ولم يتواصلا. نشرت على صفحتها قبل أن تغيب، فيديو أغنية "بعشق روحك" لمروان خوري.
- أنا أيضاً أحب مروان خوري. ستكونين قمة في الغباء إذا لم تشعري أن هذه لك. قال لها في سرّه قبل أن ينشر فيديو أغنية "على بالي شوفك" للفنان نفسه.
غريب أمر المجربين في الحبّ. يغرقون في شبر ماء. يسبغون هالة من القداسة على من يحبون.
- "كل مرّة بتقلّي هيدي غير وآخر شي بيطلعو كلن نفس الشي"، قال صديقه ضاحكاً.
- يعميني الحبّ يا صديقي! أجابه في نفسه
منذ فترة وأنا أشاهد الأفلام المصرية القديمة بالأسود والأبيض. الحبّ بسيط بساطة أثاث المنازل التي فيها. ممثلون سيماؤهم براءة الحبّ والحلم. تعارف يجري بالصدفة غالباً ثم يستشيط الحبّ ثم يحدث الزواج والعيش في تبات ونبات. أضحى الزمن غير الزمن. أسوأ ما في تكنولوجيا التواصل أنها تعوضك عن دفء أنت مستحقه. أردت أن أعايدها بذكرى ميلادها وجاهياً. دخلت إلى مكتبها. سلمّت. لكنها ردّت بصلف لم توحي لي به أثناء محادثتها على الفايسبوك. استدرت من فوري وعدت أدراجي. أكره هذا الفايسبوك. رغم أن صديقتي قالت لي عنها أنها محترمة جداً لكنها لم تقل لي أنها "منقرفة أوي" كما رأيتها! أقسم أني لن القي عليها السلام إذا صودف وجودها معي في المصعد. أقسم!
ساعدته صديقته على ترجمة "STATUS " قال فيها لأميرته النبيلة "لقد قمت بخطوات ايجابية لكنك لم تحترميها، وهذا يعني انك شخص لا يستحق الالتفات إليه. من الآن فصاعداً لن اهتم لأمرك... الله والنبي معك...".
لا تصدقوه فهو يكذب.. وأنا أيضاً.