وكلّما سألني أحدهم متى بدأت الكتابة، لا أجيب.
قبل عام 2015 كانت الكتابة هروباً من الحرب، بالنسبة لشخصٍ يجلس على ضوء شمعة كلّ الليل، يكتب على الورق، وهي عادتي إلى اليوم، ثم ينتظر الكهرباء التي قد يسبقها خبر موت وتدمير واعتقالات، يُلغي كل كلمات الحب الرخيصة التي يكتبها على الورق، التي أصبحت بعد فترة، صفحة «فايسبوك» غبية، أنظر إليها اليوم بضحكة وحرقة على ما فعلت، غصة على كل الغباء، سابقاً، حاضراً.
وكنت أقرأ كتباً متداولة، سلعة السوق الرخيصة، لا لشيء، فقط لأنّها متوافرة في بيتنا أو عند أحد الأصدقاء، حين تحاصرك الحرب وتصير بلا عمل، تهرب إلى الكتب، الموسيقى، الرسم، الكتابة، وحتى إلى ما لا يمكنك تحمله، المهم أنّك تهرب لتحيا، ولو كانت كتباً كتلك، أبشع من كل هذا الذي يحصل.
قد لا تكون السنوات قبل 2015 جديرة بالذكر، لم أكن فيها سوى صانع هراء (السخافة أهم ممّا كنته قبلاً)، البداية كانت في لبنان، حين هربت من كل شيء، بعد سنة من العمل في المستودعات، وبعد كثير من الوقت الضائع يومياً بانتظار الساعة العاشرة مساء حيث يمكنني القراءة، أو على الأقل النظر أبعد من غبار وتاريخ صلاحية منتجات غذائية.
أتاحت لي بيروت لقاء صديقي الأجمل، لم أكن أعرف أن نور دكرلي كاتب، وأنّ زيارة لبيت دخله كلّ السوريين، قد تتيح فرصة لأخطو خطوة نحو ما صرته اليوم، احتاج الأمر إلى أربع شهور لنتحدث عمّا أفعل، حين أنهيت قراءة كثير من الكتب في ليل مستودعات العمل، كتبت نصاً أظن أنّه كان وقتها مجرّد هربٍ جديد من كلّ شيء، سألني عمّا كتبت، قلت إنّ لدي نصاً وحيداً، قال أرسله، وكنت واثقاً ممّا فعلت، وكانت بداية كلمة «حلو يا أخوي»، اليوم أنظر لسنتين من الـ «حلو يا أخوي»، حيث كانت بدايتي معها فيما يحب البعض تسميتي، كاتبا.
لم يكن ابن حمص يوماً قدوة كما يعتقد الجميع، أصحاب الحزن يعرفون بعضهم، يتقاسمون ضحكة أول النهار وغصة أخر الليل، أنظر لصديق يبادلني الحديث لمجرد أنّنا في سجن ضيّق اسمه الحياة، في سجن اسمه بيروت، نتحدث عن الأغاني العراقية، ماضٍ لي وماضٍ له، وأحياناً عما يجب فعله قبل نشر النص، لا أذكر أنّنا تحدثنا بعد أول نص عن الكتابة، حين أنهى كتاب «انتحار رجل سخيف»، كنت أظن أنني سأقرأه، كنت سخيفاً، انتظرت نسخة من كتابه الأول ولا زلت، ونسخة من كتابه الجديد، ولا زلت، إلى أن أدركت اليوم أنّ الكتاب الجيد لا يأتيك، يجب أن تذهب إليه، تماماً كما كان البحث عن صديق بجودة نور دكرلي.
حقيقة أكتب كل هذا بحزن، وأنا أودع مكانا أحببت قاطنيه، كتّابه الجميلين، والذين لا ضرورة للقياهم ليكون لهم مكانهم في القلب، حين أبلغوني أنّ هذا العدد هو الأخير، وأنّ لدي فرصة لأكتب رسالة شكر في هذا العدد لمن أوصلني للكتابة، شعرتُ بأن القلب قد يصبح خاوياً كالأمكنة التي يهجرها أهلها، لم أجد مهرباً كأيّامي السابقة، الحزن الذي ينبت لا يُحصــــد بسرعة، تـــجربة جميلة أن ترسل نصوصك ليقرأه من سيــــقول لك «حلو يا أخوي»، ثم تصل لأصحاب القــــلوب الحلوة، وهنا يكون أجمل ما مررت به خلا سنتين من كل هذا، «ايه والله يا أخوي».
ستغلق جريدة أخرى، من وزن ليس بالسهل، في زمن ليس بالسهل، سنفتقد أصحاب قلوب شاركونا كل شيء، أنظر لما أكتب وأتذكّر رحيل سكان البيت الذي منه انطلقت، ثم رحيلي عنهم، كلّ شيءٍ يشبه الرحيل، حتّى رسالة الشكر هذه، لصديقي الجميل، لأصــــدقائي في «شـباب السفير»، تصبح رحلة لن تكفي لقول كل ما في القلب، رحلة شكر لن تكفيهم، وليتها لا تنتهي.