عزيزتي،
استيقظت اليوم متأخّراً، يبدو أنّني قد نمت طويلا. أشعرُ بسحابة لذيذةٍ تلفُني من رأسي إلى أخمص قدمَي، لكنّني أنتبه لحقيقة جسدي الملقى وسط أرضيّة المطبخ، وبعينٍ نصف مغلقة، لمحت ثلاثة أكوابٍ من الشاي ترقدُ على الطاولة اليتيمة، سحبتُ جسدي للأعلى والتقطت ورقةً كانت راقدةً تحت الإبريق، مكتوباً عليها ثلاثة أحرف، موزّعة بين أعلى الورقة، وسطها وأسفلها، ومغروسا على جانبها الأيمن سكينٌ. حتّى الآن لم أدرك ما الذي قد تعنيه تلك الحروف، ومن الذي ترك لي حروفاً معلّقة على حافة نصل، متوسطةً ثلاثة أكواب فارغة وسط مطبخي؟ قمت سريعاً أتفقّد الشقّة، لا شيء غير عاديّ، أنا متيقنٌ أنّني عدت وحيداً إلى البيت ليلة أمس، الأمر مرعب، ولا شيء بمقدوري فعله سوى الضحك.
ثلاثة أكوابٍ من القهوة وثلاث جولات تحت الماء البارد، هذا كلُّ ما احتجت إليه لتبدأ ذاكرتي باجترار ملامح ما حدث الليلة الماضية. كنت عائدا للبيت، لحظتها باغتني وجودك على درج العمارة، حسبت وقتها أن خيالاتي التي لازمتني الفترة الماضية أخذت منحىً آخر وها أنتِ تنتظرينني أمام باب الشقّة. يأتي إليك صوت البحر فتذهب إليه، هكذا أنا وأنتِ لكنّ ما قطع ذلك الشّك - شك أن يكون ذلك خيالاً- الرجل الذي كان يجلس خلفك على الدرَج. حدّقت في وجهه وبكلّ لعثمة وارتباكٍ صرخت: حسين؟ مُجيباً إياي بكلّ خفة: صحيح، حسين. صافحني، لقد كان كالرمح، خلع معطفه وألقمني قلبه. فتحت الباب بعد دقيقة صمت معجونة بدهشة أفواه مسدساتٍ مصوّبة على رأس أحدهم في زقاق ضيق. دلفنا معاً إلى الشقّة، طلب مني حسين إعداد إبريق من الشاي ثمّ جلسنا ثلاثتنا في المطبخ. لم يكن هناك سوى طاولة صغيرة، يحوم حولها كرسيّان، جلست أنتِ وحسين كلاكما على واحد وبقيت أنا واقفاً صامتاً في الزاوية أحاول أن أستوعب ما يحدث. خرق حسين جولة الصمت تلك، قائلاً، كالصاعقة، ما كنت قد سمعته من صديقي قبل يومين فقط: «هل ما زالت المياشم عالقة بأرحامها؟». هذا كلّ ما أذكره.
الآن، لماذا يبحث الواحد منّا عن وجهه خلف البحر، يبحث عنه في سنابل القمح أو دويِّ الرعد رغم أنّه يراه جليّاً في المرآة المعلّقة على الجِدار؟ أجل، لكنّه يهرب منه، يهربُ من هذا الوضوح لينجو من فِخاخ النقص، لماذا يفعلُ هذا يا ترى؟ أو ربما يذهب بعيداً لأنّه يريدُ أن يرى الأشياء من زاوية أخرى، زاويةٍ ذات رفق، يريد أن يتذوق ما حدث ويحدثُ من اتجاهين، الأوّل: اللحظة، والثاني: عين استعادة الماضي. ربما يكون وجهك في موج البحر أوضح وربما في سنابل القمح أنت أقوى وعلى هذا لا تتوقّف الاحتمالات.
يقول كريشنامورتي: «لا يجوز لك أبدا أن تظلّ هنا أكثر ممّا ينبغي، كن من البعد بحيث لا يكون بمستطاعهم أن يجدوك، أن يمسكوا بك ليشكلوك، ليقولبوك». في نهاية المطاف، إنّني أكتب لأنّني مخيف أو لأنّ المخيف هو ما يحصل فعلاً أو ربما أنا مخيف حقّاً لكنّ الكتابة تجعلني مألوفاً، إنها تخفّف من وطأة الشعور، وتكتبُ مثلما تبحث عن ملامحك بعيداً من الطرق العاديّة والسهلة، لأنّك ولدت مرّة وتموت آلاف المرّات ووحدها الكتابة تهوّن عليك. لست ساكناً، تخطّ ما يدركه حدسُك، بالضبط كما قال حسين البرغوثي، حسين نفسه الذي جلس على درج العمارة التي أسكنها، جلس على كرسيّ مطبخي واحتسى الشاي وأخبرني ما لم أنتظر سماعه.
أكتبُ لأكون بعيداً قريباً، بما يكفي لأملك صورةً غابت عن الكلّ وباغتتني، لأنّ المرآة ليست شفّافة بقدر ما يحتاج داخلي لنبشه، ولأن الكلماتِ سلاحُ من لا يريد الحِياد. أكتبُ لأنّني فصولٌ متداخلة، بسيطة ومعقّدة لا سبيل لتطفو على السطح كليّةً. أكتب لأكون سمكة وشلالاً، بالضبط مثلما أشار لنا حسين نفسه، ولأن من طبيعة السمكة أن تسبح في كل ماء وهذا الماء هو الفهم: سمكتك الذهبية، من طبيعتها أن تسبح في كلّ نظرية، كلّ تجربة، كلّ رأي، كلّ نوع من المعرفة، كلّ ماء، وتبقى هى هي، سمكة. ولأنّ من طبيعة الذهن أن يفهم نفسه، كما أن من طبيعة السمكة أن تسبح. أكتب كي أقترب من نفسي وأنا على سفح جبل، أطلُّ عليها كي أفهم. أكتب لأنّني أسبح في تجربة الحياة هذه.
عزيزتي، ها أنا أسبح.. وها أنا أرسل إليكِ، لأستعلم عن سبب وجودك وحسين بالأمس في شقتي، وعن معنى الأحرف الثلاثة تلك التي عُلقت على حافة نصل؟ وما الذي جاء بحسين من بين اللوز ليكون بين طوابق غابة إسمنتية موحشة؟ ثمّ ما الذي حدث كاملاً بالأمس وضاع من ذاكرتي ومنّي، ولتخبريني عمّا تخبئه جنائن عينيكِ، تلك التي لمعت ليلة الأمس وكأنها الذهاب المستمرُّ إلى الله. وإن خانتك ذاكرتك، فلا تتردّدي بإرسال رسالة لحسين، مستفسرةً منه عمّا حصل ليلتها، تعرفين عنوان حسين جيدّاً، «هو حولنا فالتفتوا لتروه».
عزيزتي.. وعزيزي حسين، ماذا لو كان كلّ شيء تحت تأثير الثمالة، وأعني كلّ شيء فعلاً ونحن لم نر حتى الآن ما يمكن لنا أن نراه؟