يصعد على الدّرج الخشبيّ الضّيّق لعرزاله الّذي أنهى بنائه منذ يومين في بستان جدّه استعداداً للعطلة الصّيفيّة، وذلك بعد أن استطاع وبنجاح اجتياز أسئلة الجدّ الكثيرة؛ "شو بدّك بهالشّغلة؟"، "يعني لشو العرزال؟"، "من وين جبت الخشبات؟"، "على أيّا شجرة؟"، "يعني ميلة أرض بو الياس البرخش؟". كان البستان يمتدّ على إحدى التّلال الغربيّة لقريته الجبليّة المطلّة على البحر من بين تلّتين، متّصلتين بخطوط التّوتّر العالي. يستلقي على الفراش في العرزال الصّغير وأمامه هذه اللّوحة، كان وقت الغروب، والألوان في أبهى حللها، يمسك بيده كتاب "الغربال" لمخائيل نعيمة، يقرأ أوّل أربعة أسطر، يغلبه النّعاس الآتي على نسمات الرّيح اللّطيفة، فيغفو ويستقرّ الكتاب على صدره...
كان لقائهما الأوّل بعد الصّدفة الغريبة الّتي جمعتهما، وبعد الكثير من المراسلات عبر الفيسبوك. ينتظرها قليلاً فتصل، يتبادلان السّلام بحرارة،
- تعذّبت لتوصل؟
- لا هينة كتير، بعرف بكاسين، ضيعتي مش بعيدة...
ثمّ يقرّران أن يتنزّها في حرش الصّنوبر، وتبدأ الأحاديث، حتّى الوصول إلى صخرة بيضاء كبيرة في وسط الحرش العظيم، يجلسان عليها، ويكملان أحاديثهما عن تجارب وتفاصيل الحياة، وتنتقل الأحاديث إلى الحياة الشّخصيّة. كانت أوّل فتاة تعامله باهتمام وتقدّر مشاعره وطيبة قلبه، وهذا ما كان يفاجئه، "كيف عرفت ذلك؟ رغم أنّ علاقتنا قصيرة على مقياس الزّمن، كيف وثقت بي حتّى لنجلس هنا في مكان بعيد لوحدنا؟" لم يعتد المعاملة بهذه الطّريقة يوماً، فقطع عليها عهداً على تلك الصّخرة، أنّه سيفعل المستحيل كي تبقى في حياته، وأنّه لن يخسرها...
إنّها السّاعة التّاسعة مساءً، والسّهرة ما زالت في بدايتها، تتوسّط الطّاولة زجاجة التّيكيلا، وحولها زجاجات الألمازا السّتّة، وهم في لقائهم بعد طول غياب. وأخيراً نجحوا في ترتيب هذه السّهرة على شرفة منزل صديقهم حنّا الملاصق للبحر، فقد حكمت الظّروف أن يبتعدوا لسنين، كلٌّ منهم ذهب في طريق ليحقّق طموحه المهنيّ، ولكن كانت إرادتهم صلبة للعودة واللّقاء. كانت الأجواء هادئة على نغم الأمواج، يحدّثهم هادي، الّذي يغمر حبيبته جنى، عن علاقتهما المستمرّة منذ المراهقة، عن كميّة الحبّ، وعن الذّكريات الجميلة واللّحظات الّتي لا تنسى، كما عن الصّعوبات الّتي تواجههم نتيجة أنّهم من طوائف مختلفة. يستمع الجميع بشغف، فهذه القصّة الجميلة باتت من "تراثهم"، لقد اعتادوا عليها وأحبّوها بقدر حبّهم لهادي وجنى. "رغم كلّ الحواجز، نحن مستمرّون إلى النّهاية، حتّى لو مدنيّ بدنا نتجوّز" يقول هادي، فيردّ حنّا: "كلنا رح نكون بعرسك، ورح نولّعلك ياها!"
يخترقان الطّريق الوعرة نزولاً نحو وادي "لا مارتين"، بأقدام صلبة وعزيمة كبيرة، حتّى وصلا إلى مكان مطلّ. لقد وعدها أن يعلّمها كيفيّة استعمال السّلاح بعد أن أخبرته يوماً في الجامعة عن حشريّتها حول هذا الموضوع. يخبرها قليلاً عن إسم الوادي، وأين ينتهي، في حين وجب أن تخبره هي، فهي إبنة المنطقة. يقول لها وهو يمسك الكلاشينكوف: "هذه القطعة السّوداء لتأمين السّلاح، إذا أنزلتيها إلى المستوى الأوّل، فهذا الرّشق، أمّا المستوى الثّاني فطلقة طلقة"، ينزلها إلى المستوى الثّاني، ويلقّم الرّشاش بسرعة، يركّزه على كتفه، ويضع النّيشان على جذع يابس بعيد نسبيّاً، يلتفت ويقول لها مازحاً: "ما تنقزي وتنخدش أنوثتك"، فتضربه على كتفه ضربة خفيفة وهي تبتسم، ليبدأ بإطلاق النّار. كان أزيز الرّصاص يزيده حماساً، أمّا هي، فيلهب مشاعرها...
السّاعة السّادسة بعد الظّهر، يقفون على كورنيش بلدتهم السّاحليّة الصّغيرة، يحمل أحدهم الغيتار ويعلّم صديقه: "هون الدّو، وهون الرّيه، وهون المي"، في حين سأم صديقه فقال له: "حلّ عنّي، أو قلّك؟ سمّعنا شي لاتينيّ"، فيعزف ببراعة لحن جميل، ليشعر الجميع أنّهم على أحد شواطئ هافانا...
على شرفة منزل الأسرة ليلاً، يجلس بالقرب من صديقته الشّقراء، كانت ترتدي الأسود، أمامهم الطّريق السّريع الخالي من حركة السّير، وخلفه يتلألأ البحر العظيم على ضوء القمر. تحدّثه عن رحلتها المرتقبة إلى كندا، فتسأله:
- ماذا تعرف عن كندا؟
- في الحقيقة، كلّ ما أعرفه أنّ المناخ بارد جدّاً، وأنّهم يتكلّمون الإنكليزيّة والفرنسيّة، وأنّ الفنّانة سيلين ديون كنديّة.
- وما رأيك بسيلين ديون؟
- أوّل أغنية أجنبيّة علقت في ذهني كانت لها، باللّغة الفرنسيّة، وقد قام صفّنا، الخامس ابتدائيّ، بأدائها على مسرح المدرسة، كما أنّني أحبّ أغنية فيلم التّايتانيك كثيراً.
- جميل، بالفعل هي أغنية رائعة.
يلفح كتفها نسيمٌ بارد، فتقترب منه، يغمرها ويقبّل رأسها، ويبتسمان...
يجلسون في غرفة الشّتاء أمام وجاق الحطب، والثّلج يغزل في الخارج، تعدّ الخالة اليانسون، والكستناء على الطّاولة، أما هي وخطيبها يتبادلان النّظرات الخجولة والابتسامات، نعم فبوجود الأهل يجب احترام الهيبة، لكن حنان الغرفة كان كافياً ليروي الشّوق بينهما...
يوم الجمعة، هذا اليوم المميّز الّذي يعلن نهاية الأسبوع، عائدان من الجامعة بعد الظّهر والسّماء ملبّدة بالغيوم، متّجهان نحو منطقة جزّين بسيّارته الألمانيّة العائدة للتّسعينات، لقد اعتادت أن تعود صديقة الطّفولة معه كلّ نهاية أسبوع إلى قريتها بعد أسبوع كامل تمضيه في السّكن الجامعيّ. وهم في طريقهم على أوتوستراد النّاعمة - الدّامور، ترتفع رويداً رويداً في السّيّارة تلك الأغنية لمروان خوري، على لحن البيانو السّريع، فيضع هو السّرعة الرّابعة وينطلق بسيّارته بعزم، أمّا هي فيقشعرّ بدنها، وتذهب في خيالها إلى مكانٍ بعيد...
نظّف غرفته في المبنى حيث يقام المخيّم التّثقيفيّ المركزيّ، ثمّ استحمّ بالمياه الباردة، ودعا رفيقته للجلوس والنّقاش. كانت من أعزّ الرّفاق إلى قلبه، وما كان يميّزها ثقافتها العالية وتفكيرها العلميّ، وكان هذا سبب اتّفاقهم الدّائم في الآراء ووجهات النّظر. بدأ الحديث عن مقال كان قد أرسله لها منذ فترة وجيزة، يتحدّث عن الفراغ، كيف نفتقده بسبب وسائل التّواصل الحديثة، في حين يملأ أوقات عملنا. كانت مهتمّة بالجزء المتعلّق في وسائل التّواصل الاجتماعيّ وكيف شوّهت طبيعة العلاقات الإنسانيّة، أمّا هو فكان يلفت نظرها لمسألة الفراغ في العمل، ما استوقفها لتستفسر، فراح يغوص في الشّرح، كيف أنّ ماركس اكتشف هذه المسألة منذ أكثر من مئة عام، مسالة "الاغتراب"، وكيف توقّع أزمة الرّأسماليّة ووهم اللّيبراليّة، وتحدّث عن استبدال الانسان بالآلة، في حين يشكلّ الذّكاء الاصطناعيّ اليوم أحد أكبر المشاكل في النّظام الحاليّ. وطال الحديث وتشعّب إلى حين جاء مسؤول المخيّم ودعاهما للصّعود إلى القاعة الكبرى لاستكمال برنامج التّثقيف، فقالت له: "للحديث تتمّة"، فردّ: "حتماً يا رفيقتي العزيزة".
استيقظ فجأة وهو يشعر بوخز متتالٍ على كتفه، ففتح عينيه ليجد "المجتمع" يقهقه قهقهة خبيثة، فيربّت على كتفه "النّظام" قائلاً: "دعه يحلم، لكن ليس أكثر"...