مستلقٍ على السّرير في تلك الغرفة الحقيرة، يتذكّر جيّداً، كيف كان يستعدّ لذاك اليوم المفصليّ في حياته...
تسارعت الأحداث، لم يكن يتوقّع أن يكون الانسلاخ بهذه السّرعة الّتي فرضها الواقع، ولم يملك ما يكفي من الوقت ليراجع حساباته، أو ليتخيّل ما قد يحصل في الأيّام المقبلة القريبة، ولكنّ، هو أمضى شتاءً بكامله يحلم بتلك الخطوة...
أيّام الشّتاء الحنونة، عندما كان يجلس في المطبخ الصّغير، الّذي حصّنه من البرد بمدفئةٍ كهربائيّةٍ صغيرةٍ تارةً، ومدفئةٍ على الغاز تارةً أخرى، كان "يقرقع" المتّة، ويفتح نافذته على العالم عبر حاسوبه المحمول، ويطلق منه نغمات أغنية "يا ريح الجايي من الشمال"، وهو يتخيّل كيف ستكون ريح الشّمال بعد عام. كان حينها يشعر بالدفء، رغم وعيه أنّ رياح المحيط الأطلسيّ ليست بالدّافئة أبداً، ولكن، الدّفء ليس دائماً شعور الجسد الخارجيّ، خصوصاً لمن يملكون قلباً. كانت حرارة قلبه ترتفع عندما يدرك أنّ حدود المحيط ستكسر حدود الواقع الأليم الّذي كان يعيشه على شواطئ المتوسّط، كان يجد عند تلك الحدود، حدود المحيط، مدىً بعيد لمستقبل باهر، وأمل جميل بتلك الصّداقة الّتي لطالما حلم بها يوماً.
مستقبله كان هاجسه الأساس منذ تفتّح وعيه على هذه الدّنيا، فهو يدرك أنّ لا حيلةً سوى العلم والتّعلّم للنّجاة في معركة الحياة القاسية، أو ربّما الانتصار فيها، أمّا المسألة الأخرى، أي الصّداقة، فلم تغب يوماً عنه، منذ أن مزّق بعض الأقنعة الخبيثة في بداية مراهقته، وتعلّم كيف يختار من يستحقّ اللّقب العظيم. إن هذا الثّنائيّ في حياته، والّذي لطالما حكم قراراته، كان يمرّ لسنوات في أصعب مراحله، كانت سنوات صعبة، كادت توصله إلى حافّة الاكتئاب أو أوصلته ربّما، لذا كان يرى شمالاً فتحة النّور الّتي ستعيد الإشراقة لثنائيّته الشّهيرة، وبالتّالي، لتحكمه بأملٍ لم يكن له مكان في تلك السّنين. ترك جزء العلم إلى حينها، وراح يغوص في تأمّلاته حول "المشاركة"، نعم، فقد كان كلّ هاجسه منذ تعلّم معنى الصّداقة، أن يشارك من يحبّ فيما يملك، أن يتحدّث لساعات طويلة معهم في الفلسفة والفكر والنّفس البشريّة، في السّياسة والمجتمع، أن يسرد لهم أحداثاً مرّت عليه، أن يعرض عليهم ما قرأ من كتب، أن يرفع صوت الموسيقى الّتي تسحره، وكان الأجمل، أن يشارك معهم لحظات لا تنسى، أو أن يصنعها معهم. وفي معنى الصّداقة، كان يتردّد لذهنه دائماً قولٌ جميلٌ لجبران: "إنّ الصّداقة هي مسؤوليّة جميلة، وليست فرصة أبداً!"
رغم كلّ ما كان يملكه من تجربة في هذا المضمار، ورغم كلّ الخيبات الّتي تتالت، إلّا أنّ ثقة عمياء كانت تطمئنه إلى أنّ ما ينتظره لن يكون تكراراً لما حصل في ماضٍ لم يكن بالبعيد. فتجربة تلك العام كانت مميّزة، ولم تشوبها شائبة، والأهمّ، أن كلّ ما تقدّمت شمالاً، كلّ ما تراجع الخوف من عدم وجود وسيلة نقل تؤمّن العودة إلى المنزل بسلام وأمان، دون "شحشطة" ودون "قيل وقال".
حزم أمتعته في ذاك اليوم، وكلّه أمل ببداية جديدة، نعم لقد حُكم بالأمل الّذي أنعش قلبه بعد طول غصّة، وهذا ما ساعده على تحمّل الفراق الأليم لكيان أحبّه وأحبّ من وما فيه، وعبر...
عبر ثلاثة آلاف وخمسمئة كيلومتر، ووصل، ليجد أمامه باباً مغلق، في ظلامٍ دامس، وهو وحده، وفي يده الكثير من الأمتعة...
هو الآن في سريره، ينتظر بلهفة مرور الثّلاثة أشهر القادمة، ليهجر الغرفة، متّجهاً إلى الشاطئ، ومعه هذه المرّة القليل من الأمل، الأمل بملاقاة أحد الأصدقاء القدماء، ليشاركه كلّ غروب يوم الجمعة ذكريات أليمة...