النزاعات الدينية في الشرق الأوسط | الحضارة المصرية
تحدثنا في الجزء الأول من قراءة كتاب "الموقف الحضاري من النزاعات الدينية" عن الحضارة الآشورية والفارسية ومحاولات السيطرة على البلاد عن طريق اشتعال وإخماد النزاعات الدينية.
الحضارة المصرية
عودة إلى مصر، إخناتون صاحب فكرة عبادة الإله الواحد "الشمس" شهدت مصر في عصره صراعاً كبيراً بين القوى التي تدعو للانفتاح والاستفادة من ثمار الحضارات الأخرى ضد القوى التقليدية المتمسكة بالعهد القديم المتمثلة برجال الدين والنبلاء ذوي المصالح، القوى التقليدية لم تر في تقدم الحضارات الأخرى أي تميز مقارنة بما قدمه قدماء المصريين حتى اللعنات والكوارث الطبيعية والهزائم التي مني بها الجيش المصري أرجوها لغضب الآلهة عليهم من هجرهم سنة الأولين وتبني العادات الأجنبية الدخيلة.
ومن الملفت أن الكاتب يرى أن الاندفاع المحموم للقوى المحافظة ورجال الدين تحديداً في موجتهم الهجومية-الدفاعية سببها تقلقل واهتزاز عميق في الثقة، لأن المملكة المصرية قبل الهكسوس كانت ترى أنها بمعزل تام عن الخطر والعالم الخارجي حتى أنهم عاشوا في اكتفاء ذاتي واستقرار معيشي وروحي لم يكن وقته أي داعِ للشك بالتوجهات الدينية وتحديثاتها المتتابعة، حتى بعد طرد الهكسوس تعرّض المصريّ للعالم الخارجي وبدأ يتسع التبادل التجاري والثقافي ووصول القوات المصرية لمناطق لاتشبه الحضارة المصرية على الإطلاق لكنها قائمة بذاتها، كل هذا كان يدعوا لاضمحلال الإيمان بالنظام المصري القائم وعندها أدرك أمنحوتب الرابع أن العبادة القديمة ليس لها مكان في ظل الظروف الجديدة، وأن من شأن استمرارها أن يحكم على مصر بالتحجر ثم الاندثار. لقد ثار أمنحوتب الرابع على كل النظام القديم وغير اسمه لإخناتون، أغلق المعابد القديمة، محى اسم الإله أمون وابتدع عبادة الشمس التي تطل على كل الأراضي والحضارات والأمم، تطل على كل مكان، والمصري هنا لن يشعر بالاغتراب وإله الشمس يرافقه لكل مكان يسافره وينظر إليه ويباركه عبر السماء، لقد جعلت عبادة الشمس المصريين في حالة من الدهشة لأنهم وجدوا أن الإله الجديد الواحد الذي يوحّد الجميع يستطيع بسهولة صنع روابط ومحو إشكالات كانت في الماضي بين المصريين وأنفسهم وغيرهم، كما أنه ليس من صنع الإنسان، ثم إن المصريين انطلقوا في الأرض يستكشفون البلاد الجديدة ويطّلعون ويقارنون بين الحضارات والثقافات الأمر الذي حقق هدف إخناتون "جزئياً" في إخراج الإمبراطورية المصرية إلى النور.
لكن الأمر لم يستقر خصوصاً في ظل وجود قوة مضادة لإخناتون، ومصالح اقتصادية في خطر تستوجب الدفاع عنها، يمكن أن نختصر الفئة التي ناصرت إخناتون بالجنود الذين جابوا البلاد فتحاً والتجار والموظفون الذين جابوا أرجاء الإمبراطورية واطّلعوا على أحوال الغير ودياناتهم وثقافاتهم، لكنهم مع كل تجاربهم التي تجعلهم ثابتي الموقف كانوا أقلية لأن القوة التقليدية كانت بقيادة رجال الدين والنبلاء أصحاب المصالح والامتيازات وبالطبع الأغلبية التي كانت تخضع لهيمنة النبلاء وسيطرة رجال الدين عبر الدجل والابتداعات والتحديثات الجديدة في الدين التي كانت تعمل على تمكينهم وزيادة نفوذهم وضمان سيطرتهم على التابعين من الشعب، لقد كانت القوة التقليدية الرجعية سبباً في إفشال إخناتون والانقلاب عليه وهدموا قصوره ومعابده، فجاء توت عنخ آمون خلفاً له، آمون الذي حمل أفكار السابق لكنه حاول تمريرها مواربة خوف الكهنة ولم يفلح بالطبع الآخر لأن أي من مظاهر المارق الفاسد إخناتون كانت مرفوضة وأي مبادرة من هذا النوع كان يتم إجهاضها مبكراً.
الجيش المصري الذي تعاون مع إخناتون سابقاً، سرعان ما عاد وتحالف مع رجال الدين و النبلاء، "حور محب" قائد الجيش المصري ترك قيادة البلاد لهم وانشغل بالغزو، للقضاء على ثورة إخناتون آثار بعيدة المدى ظهرت على مصر فقد هجر تل العمارنة وتغير الفن المعماري، وبعده انصب تركيزهم على ضخامة البناء وانحدر فن النحت في مصر ولم يعد الجمال ودقة الأداء مهماً مقابل الضخامة، كما زادت وتيرة خلق وانتشار الخزعبلات بين المصريين، فالمتعبين والمقهورين من ظلم الفراعنة أصبحوا مقتنعين أن الخلود في الجنة ولا يمر عبر الفرعون وهو حق للجميع ما بعث فيهم الأمل والسكينة مقابل الظلم الذي يتعرض له المصري وقتها، وأصبح يكفي المصري بعض التمائم والتعاويذ السحرية في القبر لتأخذه نحو الجنة وتقوده في طريقه عبر العالم السفلي.