كنت أنتظرك بشدة،و قد مرّت سنة على غيابك المرّ، لم أصدق أنك بعيد، كنت أقنع نفسي في كل يوم يمر أنك بقربي، و أنني أتكوّر في حضنك الدافئ، و حينما أخبروني أنك ستعود الى لبنان كاد قلبي أن يخرج من مكانه، كان يتخبط "كالدربكة" في ساحة الانتظار، لم أصدّق كاتيا حين اتصلت بي،تزفّ لي هذا الخبر السعيد،انتظرتك حتى وصلت، و اشتدت النيران في بطني حين وصلت،و احترقت أعصابي اكثر، حين علمت انك وصلت و لم أرك بعد، كنت كالمجنونة، أعد خطواتي صعوداً و نزولاً على الدرج، و كنت أروح و أجيئ في المنزل حد الغثيان، لم أشأ ان أتصل بك كي لا أفسد ما ظننته أنت أنه لا يزال مفاجأة.. ليتني لم أعلم وقتها، اتصلت بكاتيا مئة مرة لأسألها عنك، حتى شتمتنا سويّاً، و ابتسمت لحظتها، لأنها جمعتنا في هذا، فوبّختها دفاعاً عنك. خطر لي ألف مرة ان آتيك لمنزلك في النبطية، ان آتي و أتفاجأ بك كما تريد، لا يهمني سوى أن أراك حتى لو أردتني أن أكذب بتعابير وجهي، و لكنني انتظرت، ووعدت الشمس إن غابت مبكرة، بأن أطيل لها الصيف، و أقاتل معها الخريف و الشتاء، و لكنها لم تسمعني، أو أنها لم تكن تسمع و تطيع غيرك! صباحاً اتصلت بي كاتيا تقول "جواد طلب مني نزلك ع مطعم ة مربوطة اوكي؟ تفاجئي بس تشوفي" سأتفاجأ سأتفاجأ! و حينها رغم علمي أنك قادم، أصبح الانتظار أصعب و أمر و أڜقى، وقتها أيقنت شعور عقارب الساعة البطيئة حين تقف منتصف النهار او منتصف الليل على رقم 12، و هي تنتظر عقرب الثواني السريع ليجاريها، في هذا الوقت يكون عقرب الثواني أبطأ من عقرب الساعة و الدقائق، كنت انا عقرب الساعة، و كنت عقرب الثواني الذي يتحجج ب "عجقة السير" لكاتيا. جلست في الخارج، على الطاولة التي اعتادت ان تظل تحت هذا الشجر في الحمرة، تظن لوهلة أنك في الجنوب و لست في بيروت،كنت كثيرة الإشارات، أتلفّت كانني ذرّة طائشة تملك كماً مهولاً من الطاقة، أنظر إلى الناس و لا أراهم.. حتى وصلت.. كم كنت وسيماً باللون الأسود، لم تتغيّر كثيراً ، لحيتك الخفيفة، و عيناك المكحلتان، و ووجهك المتهكّم، شردت بك كأنني أراك لأول مرة.. تتذكر؟ قمت عن الكرسي و بدأت أرجف، ركضت إليك كشهاب يبحث عن حضن، حضنتك بقوة، شممتك بقوة، بكيت.. بكيت بقوة.. سنة ألفين و اثنا عشر، ذهبت يا جواد، و أصبحت ماضٍ. صدمتني بما نشرته خلال هذا الأسبوع، لم أستطع إلا ان أسأل عن بريدك الالكتروني، أردت الرد، كيف تنشر ما كتبته منذ سنين، من أين أتيت بالجرأة كي تنشر مكنونك العاطفيّ أمام المجتمع الذي كنت تقول عنه ميت و ضعيف و لا يداري؟ كيف تروي للناس ما حصل بيننا بهذا الاختصار الشديد، أراهن انني قد شتمت أمامك من المتعاطفين، و لربما.. بل أقصد.. المتعاطفات! لماذا لم تكن جريئاً لتتكلم بالتفاصيل؟ تعود الشمس لنا و ان ما عادت فأنت هنا! لماذا لم تقل لهنّ انني كنت داخل سترتك أُقبّل أسفل عنقك حينما قلت لك ذلك؟ لماذا لم تقل لهنّ أنك كنت تنام في منزلي، و كنت أُلبِسك حذاءك كخادمة لك. لماذا لم تقل لهنّ أنني كنت أراك رجلاً بعمر العشرين؟ لماذا لم تقل لهنّ أنك كنت تتوسد حناني اللامتناهي و لا تنام إلا و أنا أدندن لك كطفل صغير..؟ أفرغت قلبك في كبد الواقع، و رجوتك ان لا تنشرها، و أفرغت قصتنا في رواية أفيون الذاكرة، و لا زلت لا تجرأ على إكمالها علماً ان هذا كان طلبي الاخير.. قلت "لا أعلم أينك" هل سألت يوما كي تعلم؟ لماذا لم تقل لهنّ أنك حين سمعت الأشجار تؤازرك، وأن الورود في قلبي كانت هي التي تبكي على كتفك، و أن الرّيح التي رجتك ان تقف هي الزفير الذي كان يتقطر من تنهيداتي المكسورة؟ لماذا لم تقل لهنّ كم كنت قاسي القلب متحجّر الفكر،عنيد الطّبع، و أن كل الذي مررنا به كان لأنك تخالف المنطق. و هل المنطق اصبح غباء و حماقة؟ كنت غبيّة لأنني غرقت بك، هل من الذكاء الغرق؟ ترسمني على الحائط و تعرّي كلماتك أمام الجميع، و تسمي شعورك ولادة الموت، و التّخلي عن القرينة و رمي البوح! و ماذا تركت لي؟ و انت كنت قرينتي الشّريرة، و الموت الحيّ، و البَوْح الصامت! لقد نسيت ما مررت به كي أنساك، نسيت كيف نسيتك فتذكرتك. كرهتك حين افترقنا.. كرهتك بكل حب، كرهتك لأنني لم أستطع الانسلاخ عنك. لم أعرف الكتابة بعدك، و لا حتى القراءة، و لم أعد أعرف المتاهات المرسومة على وجه الشمس، و لم أعد أعرف قراءة كفّ القمر، حتى الموسيقى التي تعزفها النسائم أصبحت معقدة، و كلام النجوم لبعضها أصبح ضجيجاً لا أطيقه.. التراب الذي كنت تحاكيه عاد تراباً، و الماء الذي كنت تحسده أصبح وسيلة بقاءٍ و لم يعد رفيقاً لنا. كل ما علمتني اياه صار حملاً و عبأً، و كل ما كان منك تخلّيت عنه، و أزحته عن أناملي.. انا لم أعد أسافر الى لبنان، علماً أنني أشتاق لبيروت، بيروت التي لم تعد مرتبطة بك. أتحداك أن تريهم هذه الرسالة، كما أريتهم قلبك كمسرح دون ستائر. "المعروفة في قلبك، المجهولة لهم"