تتقطعُ الموسيقى و تتجزءُ في هذا الفصلِ الشتويِّ العنيدِ.. و كم أشتهي أن أقِفَ على هذا النغمِ الجميلِ،تحتَ سقفٍ يقيني هذا الهُطولَ،و أقومََ برسمِك على الجدارِ.كثيرٌ من الالوانِ الفاتحةِ،و كثيرٌ مِن الأسودِ الغامقِ.أشتهي رسمَك بشكلٍ يُعَبرُ عن مدى عِشقي لكِ،و عن مدى تورطي في هذه المتاهةِ وهذه الحلقةِ التي صنَعتْها مشاعري و التي لا زِلتُ أدورُ فيها،كأنّنا وُلدْنا سوياً أنا و هذه الدوامةُ،وُلدنا سوياً،هي وأنا فيها.. أنا وحُبي لكِ و بعضٌ من العذابِ الذي يُضني سكوتي.. أشتهي أن ارسمَكِ على هذا الجدارِ بدقةٍ ،بريشةٍ رقيقةٍ تُحاكي تفاصيلَ وجهكِ،و بريشةٍ ممشوقةٍ دقيقةٍ تُحاكي طرْفَ جسدِك،ثم أضعُ لي كرسياً مقابلَ هذا الجدارِ الكبيرِ وطاولةً صغيرةً وركوةَ قهوةٍ ساخنةٍ جداً،ذات وجهٍ منتفخٍ بُنيّ يميلُ للسوادِ،وسبعَ سجائرٍ،واحدةً تتلو الأخرى،دونَ علبةٍ..و سأبدأُ بفضحِ قرارةِ نفسي أمام رسمِك،و أعوضُكِ عن هذا الرحيلِ الذي أصابَنا بدقة.. حبيبتي التي كانتْ،برغم أنكِ صماءُ و برغمِ أنكِ لوحةٌ جامدةٌ تنظرينَ لي،سأكونُ الآنَ متكلماً بارعاً بعكسِ ما كنتُ عليه سابقاً،مهلاً.. أتذكرينَ كيف التقينا؟ و متى التقينا؟ التقينا على غفلةٍ..التقينا بسهوةٍ..التقينا بعمدِ الخطأ..انا أذكرُ جيداً.. حسناً..أتذكرينَ كم كان عمري؟ كنتُ في عُمرِ الغباء،و كنتِ في عمرِ الذكاءِ وقمةِ الجمالِ المُستمدِ مِن قرونِ زمنِ كليوباترا و شبيهاتِها و كنتِ في عمرِ التسابقِ على روعةِ الهياكلِ والأبدانِ..أتذكرينَ كيف التقينا و متى التقينا؟ التقينا حيثُ كُنا في جمعٍ غفير،حيثُ كانَ من المفروض أن تكوني أيَّةَ فتاةٍ،و حيثُ كانَ من المفروضِ أن أكونَ أّيَّ شابٍ،و حيثُ كان يجبُ ألا نلتقي ولا نرى بعضنا و لا نهتمّ و لا نُعيِر لبعضٍ أيّ اهتمامٍ و أيةَ صُدفة و أيّ شيءٍ بإسمِ المُجبرِ و الإجبارِ،حيثُ كانَ يجبُ ألا نلتقي، التقينا.. لا..لا لم تشأِ الأقدارُ أن نلتقيَ،لأن لا يمكنُ للقدرِ أن يشاءَ ما ليس بصالحٍ لنا،بل نحنُ الذين شئنا أن نلتقيَ غصباً حين نظرنا في أعينِ بعضٍ رغم الناسِ الذين يمرون بيننا،و لم نستطعْ أن نُبعدَ أرواحَنا عن عيونِنا و عنِ النظر..حتى أنَّ القدرَ صرخَ “لا،لا”.. فكميةُ الجنونِ التي كانت ستحصلُ بعدَ هذا التمحصِ و حصلتْ،هي كميةٌ زائدةٌ عن حمولتِها،و لا تُكتَب.هي كميةٌ ممنوعةٌ في دولةِ العشاق،و عليها ضرائبُ أظنُ أننا دفعناها بل كُنا كراماً و دفعنا ما هو زائداً مِن أنفِسنا عليها،صحيح؟ حسناً..قليلٌ مِن القهوةِ لن يضرَ لسانَ المتحدثِ،و سأقومُ بتخفيفِ حُمرةِ شفتيكِ من وسطِهما أيضاً،كي يبدو أنكِ احتسيتِ القهوةَ معي في هذه الليلةِ الباردةِ،وسط هذا الحديث ِ الشيق.. أينُ كنا؟ أعرفُ كيفَ كنّا ،بل أين كُنا في الحديثِ؟ نعم..القدرُ،واللقاءُ الأولُ وما الى هنالك.. أذكرُ ليلتَها أننا رحلْنا،و أذكرُ أنكِ لم تخطري ببالي البتةَ،و لم أفكرْ فيكِ قيدَ ثانيةٍ،و أذكرُ أنني كنتُ مشغولاً جداً بلا مبالاتي و طيشي الراكزِ،و أذكرُ ولوجي في هذه الليلةِ في ذاتِ اللاشيءِ و مكنونِه..ماذا فعلتِ أنتِ كي لا نلتقيَ مجدداً؟ لا شيء! بل بقيتِ ساهرةً، وأفكارُك المتسربةُ من اللامنطقِ تتبعثرُ قاطبةً في هذا الرأسِ الجميلِ خالقةً شيئاً من الامنياتِ.بربّك..أهذا فعلُ أنثى لا تريدُ أن تعشقَ؟ حسناً..كيف التقينا ثانيةً؟على سفحٍ ربيعي؟في وسطِ المدينة؟ كلا..بل التقينا بسببِ تلك الرسالةِ الحمقاءِ التي أرسلتِها.. “كيفَ يعودُ مَن ذَهب؟و كَيف يُعشقُ مَن لم يكنْ و من لا وجودَ لهُ منذ الأزل” فما كان من لياقتي و غبائي إلا أن رحتُ أبحثُ عنكِ في وجدانِ الأشياءِ،في شوارعِ اللقاءِ،في أماكنِ الصدفِ المقصودةِ و المتعمدةِ إلى أن انتبهتُ لظهرِ الرسالةِ “نلتقي حيثُ نشاءُ،في كبدِ الخيالِ،نلتقي أمامَ عينيك،في ساحةِ ما قبل اولِ لقاءٍ،ليسَ اليوم،بل غداً،بين المساءِ وما بعد المساء..” ماذا فعلتُ؟أتذكرين؟ لم أذهبْ،بل جِئتِ تُعاتبيني لما لم أذهب.. أظنّ لو انّ لهذا الجدارِ قدرةَ التكلمِ،لكانتْ شفاهُكِ تحركتْ و قالتْ :”ماذا كنت تُريدني ان أفعل”؟ أشكرُ اللهَ على نعمةِ الجمادِ والرسمِ على الجمادِ دون القدرةِ على إعطائِهِ الروح… اذاً..جئتيني ضيفاً في الخلاءِ،في وضحِ الليلِ،نعم..وضحِ الليل،بل جِئتيني في طقوسِ تزاوجِ النجومِ و تعميدِ القمرِ و تطهيرِ الشمس! ابتسمتِ،نعم و ما كانَ مِني الا إكرامُ الضيفِ و انْ احسنَ ضيافتَه بعبوسٍ و توترٍ و عدمِ اهتمام.. أتذكرينَ أولَ ما تفوهتِ بهِ من تفاهةٍ..؟ قبلَ السلام قُلتِ: “أيهونُ عليكَ أنْ أُهانَ مِن عدمِ حضورِك و استهتارِك ..السلام..بعد الأمان” _لكِ الأمانُ و عليكِ السلامُ..أتريدينَ قهوةً أم سُماً فتّاناً كعينيكِ الناظرتين؟ -…قهوةً مع ابتسامةٍ أرجوك..و لربما قليلاً من الانسانِ الذي أعلمُ أنهُ مختبىءٌ خلفَ ضلعٍ من هذه الضلوع.. حسناً..ماذا فعلتُ؟ أتذكرين؟ اعتذرتُ عن وقاحتي و حماقتي ..و أسحبُ هذا الاعتذارَ الآن.. و ابتسمتِ وقتَها لأنني لم أستطعْ إلا أن أنظُرَ في عينيكِ الذابلتين،و اراقبَ شعرَكِ الطويلَ الحريريَ الأملسَ،و خدّك المستقطبَ لحمرةِ الشمسِ الغائبةِ،كأنّ وجنتيكِ كانتا وكيلاً لها بعدَ الغروب.. ابتسمتِ لأنني لم استطعْ إلا أن اتلذذَ بصوتِكِ المولودِ مِن ضحكِ الناي..ابتسمتِ لأنكِ أحسستِ بهذا السجينِ يتثائبُ في داخلي.. ثُم احتسينا الليلَ في فُنجانٍ،حتى انتهتْ سجائري و مللتُ الكلامَ،فذهبتِ وابتسامتُك التي لم تختفي عن وجهِك،و ذهبتُ و نُعاسي للبيتِ كي يُنيمَ أحدُنا الآخرَ… ( يُتبَع )